gototopgototop
Get Adobe Flash player

ترجم الموقع إلى لغتك

من كتاباتي

  • الموت في المفهوم المسيحي
  • المفهوم المسيحي للعشاء الرباني
  • نؤمن بإله واحد
  • عودة المسيح ثانية ودينونة العالم
  • الزواج في المسيحية
  • المفهوم اللاهوتي للثورة
  • الثالوث في المسيحية توحيد أم شرك بالله

ابحث في الموقع

رأيك يهمنا

هل تعتقد أن الأعمال الحسنة والأخلاق الجيدة تؤدي بالإنسان إلى الجنة؟
 

زوار من كل مكان

free counters

المتواجدون الآن

يوجد حالياً 9 زائر متصل
الرئيسية تفاسير -

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

                                              للدكتور وليم إدي


تقديم                                             ملخص الرسالة                                            المقدمة

التفسير:  

اَلأَصْحَاحُ 1 2 3 4 5

 

تقديم

تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.

ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.

هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً - وهو صاحب حقوق الطبع - بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.

ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

القس ألبرت استيرو

الأمين العام

لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى

ملخص الرسالة

مما اختصت به هذه الرسالة بيان أن الديانة المسيحية إتمام نبوءات العهد القديم وفيها كثير من التشابيه المأخوذة من ذلك العهد وإشارات إلى فرائضه وتاريخه ومن ذلك ما في (ص ١: ١٠ - ١٢ و٣: ٥ و٦ و٢٠). وليس من أسفار العهد الجديد مثلها في كثرة المقتبسات من العهد القديم أو العبارات المأخوذة منه فإن آياتها ١٠٥ ومنها ٢٣ آية مقتبسة من ذلك العهد وليس في رسالة أفسس سوى سبع ولا في رسالة غلاطية سوى ثلاث عشرة. وهذا ما يتوقع من بطرس بالنظر إلى كونه رسول الختان. ومما اختصت به كثرة الإشارات إلى أقوال المسيح وذلك دليل على كونه شاهداً بما سمع من فم المسيح نفسه وأنه اعتبر المسيح كل الاعتبار وأحبه كل المحبة واتخذه سيداً ورباً. وكثيراً ما ذُكر المسيح في هذه الرسالة باعتبار كونه الوسيط وأن قيامته من الأموات تؤيد ذلك ولهذا قال «بها (أي قيامته) وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ» (ص ١: ٣) وأن إيمانهم بالله مبني على تلك القيامة (ص ١: ٢). وذكر المسيح مثالاً لنا في احتمال الأرزاء وآثر أن يذكره باعتبار كونه في حال الارتفاع قائماً من الأموات ممجداً على يمين الله رئيس الكنيسة معبود الملائكة على أن يذكره باعتبار كونه في حال الاتضاع. واختار أيضاً أن يذكره باعتبار ما سيكون في مجيئه الثاني على أن يذكره باعتبار ما كان عليه مدة مجيئه الأول. ولهذا دُعي «رسول الرجاء» كما دُعي بولس «رسول الإيمان» ويعقوب «رسول الأعمال» ويوحنا «رسول المحبة» لأن الرجاء مقدار تعليمه في هذه الرسالة وأفكاره كانت تتوجه وهو يكتبها إلى المستقبل فكان يتوقع ظهور المسيح ثانية والمجد الذي يُعلن له ولشعبه.

المقدمة

في الكاتب

كاتب هذه الرسالة بطرس الرسول كما يتضح من أولها ومن إجماع مؤرخي الكنيسة وما اقتبسوا منها ونسبوه إليه في مؤلفاتهم وموافقتها لمواعظه في سفر الأعمال ولكل ما عُرف من أمره في البشائر وذلك السفر. وكان يُسمى أيضاً سمعان (أعمال ١٥: ١٤ و٢بطرس ١: ١). وُلد في بيت صيدا على شاطئ بحر الجليل (يوحنا ١: ٤٤) وهو ابن يونا (متّى ١٦: ١٧ ويوحنا ١: ٤٢ و٢١: ١٥). وكان هو وأبوه وأخوه أندراوس صيادي سمك وكان يسكن كفرناحوم (متّى ٨: ٥ و١٤ و٤: ١٨ ولوقا ٥: ٣) وكانت حماته تسكن معه وذلك دليل على أنه كان متزوجاً ويؤيد ذلك ما في (١كورنثوس ٩: ٥). وكان من الأولين الذين تبعوا الرب يسوع واهتدى إليه بواسطة أخيه أندراوس الذي كان تلميذ يوحنا المعمدان وتبع يسوع حين سمع من يوحنا أن يسوع هو «حمل الله» (يوحنا ١: ٣٥ - ٤٣). ولقبه المسيح في أول اتباعه إياه ببطرس أو بصفا باعتبار ما يكون بنعمة الله من جهة عمله في تأسيس ملكوته (يوحنا ١: ٤٢ ومرقس ٣: ١٦). ورجع إلى الصيد بعد إيمانه إلى أن دعاه المسيح لكي يتبعه (متّى ٤: ١٨). ولا حاجة إلى ذكر كل حوادث حياته ويكفي المطلوب هنا أن نذكر شدة محبته للرب يسوع وغيرته على إظهارها قولاً وفعلاً. والوعد الذي وعده المسيح به جزاء على اعترافه بأنه ابن الله (متّى ١٦: ١٦). وكونه متسرعاً متكلاً على نفسه وأنه نشأ عن ذلك إنكاره المسيح وتوبته المرّة. وحمل المسيح إياه على الاطمئنان بعد ما قام من الموت (يوحنا ٢١: ١٥ - ١٩).

إن هذا الرسول كان بعد صعود المسيح نائب الرسل في التبشير يوم الخمسين وكان هو وهم واسطة لقبول ثلاثة آلاف مؤمن في كنيسة المسيح على وفق قول المسيح أنه يعطيه مفاتيح ملكوته ليفتح أبواب الكنيسة للذين يدخلونها بالإيمان. وكان أيضاً وسيلة إلى إدخال الأمم الكنيسة وكل بركات الإنجيل بتعميد كرنيليوس وأصحابه. لكن الله لم يقصد أن يكون هو رسول الأمم فعين بولس رسولاً إليهم وبعد إدخاله الأمم الكنيسة لا نسمع من نبإه كثيراً في تاريخ الكنيسة لكننا نرى في سفر أعمال الرسل أنه كان يسعى ويصرّح بوجوب قبول الأمم في الكنيسة المسيحية دون إتيان الفروض الموسوية. وعرفنا من (غلاطية ٢: ١١) أنه ذهب إلى أنطاكية على أثر المجمع الأول الرسولي وأنه تصرف هنالك بالحرية التي نادى بها في المجمع ولكنه لما أتى أنطاكية بعض تلاميذ يعقوب اعتزل مؤمني الأمم حتى وبخه بولس على ذلك (غلاطية ٢: ١٣ - ٢١). ولا نعرف بعد هذا كثيراً من أمره إلا أنه كان يجول للتبشير وامرأته معه (١كورنثوس ٩: ٥).

ويظهر من هذه الرسالة أنه وصل بتبشيره إلى بابل وهي المدينة المشهورة القديمة على شاطئ نهر الفرات. فقول بعضهم أنه كان أسقف رومية مدة خمس وعشرين سنة وأنه مات شهيداً هنالك لا دليل على صحته. والدلائل كثيرة على أنه لم يذهب إليها مدة حياة بولس كلها.

في من كُتبت هذه الرسالة إليهم

ذكر الرسول الذين كتب إليهم هذه الرسالة بقوله «ٱلْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، ٱلْمُخْتَارِينَ» (ص ١: ١). وهي خمسة أقسام من أسيا الصغرى وأراد بهم المسيحيين الذين فيها وكان بولس ورفقاؤه قد بشروهم بالإنجيل وأسسوا كنائسهم. وكان بعض أولئك المسيحيين من متنصري اليهود وأكثرهم من متنصري الأمم. ومن الأدلة على أن بعضهم من متنصري اليهود ما في (ص ١: ١٨ و٢: ٩ و٣: ٦) ومن الأدلة على أن بعضهم من متنصري الأمم ما في (ص ١: ١٤ و٢: ١٠ و٤: ٣).

في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها

يظهر من هذه الرسالة أنها كُتبت بعد كتابة رسائل بولس وأن بطرس كان قد قرأ رسائل بولس والدليل على ذلك ما يظهر من مقابلة بعض أقواله بأقوال بولس ومن ذلك مقابلة:

 

ما في ص ١: ٥ بما في غلاطية ٣: ٢٣
وما في ص ٢: ٦ بما في غلاطية ٩: ٣٣ و١٠: ١١
وما في ص ٢: ١٣و١٤ بما في غلاطية ١٣: ١ - ٤
وما في ص ٢: ١٦ بما في غلاطية ٥: ١٣
وما في ص ٢: ١٨ بما في أفسس ٦: ٥ وكولوسي ٣: ٢٢
وما في ص ٣: ١ - ٧ بما في أفسس ٥: ٢٢ - ٢٥ و١تيموثاوس ٢: ٩
وما في ص ٣: ٨ و٩ بما في رومية ١٢: ١٦ و١٧
وما في ص ٣: ٢٢ بما في رومية ٨: ٣٤ وأفسس ١: ٢١ و٢٢
وما في ص ٤: ١ و٢ بما في رومية ٦: ٧
وما في ص ٤: ١٠ و١١ بما في رومية ١٢: ٦ - ٨
وما في ص ٥: ١ بما في رومية ٨: ١٨
وما في ص ٥: ٨ بما في ١تسالونيكي ٥: ٦
وما في ص ٥: ١٠ و١١ بما في فيلبي ٤: ١٩ و٢٠
وما في ص ٥: ١٤ بما في رومية ١٦: ١٦ و١كورنثوس ١٢: ٢٠


والاتفاق بين بطرس وبولس المفهوم من قول بولس «إَنِّي ٱؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْخِتَانِ» (غلاطية ٢: ٧) يبعد عن العقل أن بطرس كتب إلى الكنائس التي أسسها بولس بين الأمم مدّة حياة بولس. ولنا من ذلك أن بطرس لم يكتب رسالتيه إلا بعد وفاة بولس في آخر أيام الأمبراطور نيرون السنة ٦٧ أو ٦٨ ب. م. وقيل في هذه الرسالة أن مرقس كان مع بطرس يوم كتبها ولكنه كان مع بولس في رومية من السنة ٦١ - ٦٣ ب. م كما يظهر من (كولوسي ٤: ١٠) وكان حينئذ على وشك أن يذهب إلى أسيا الصغرى كما يُعرف من (٢تيموثاوس ٤: ١١). وتوقع بولس أن يأتي إليه وهو في رومية مع تيموثاوس حين كتب الرسالة الثانية إلى تيموثاوس السنة ٦٧ أو ٦٩ ب. م.

ومكان كتابتها بابل بدليل قوله «تُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ ٱلَّتِي فِي بَابِلَ، ٱلْمُخْتَارَةُ مَعَكُمْ» (١بطرس ٥: ١٣). والإشارة هنا إما إلى امرأة بطرس أو إلى الكنيسة في بابل. وذهب البعض إلى أن بطرس كان في مدينة بابل المشهورة المعروف موقعها على شاطئ الفرات. وذهب آخرون إلى أن المراد ببابل بلدة صغيرة في مصر بقرب القاهرة وليس من دليل على ذلك. وذهب آخرون إلى أن بطرس أشار ببابل إلى رومية والاسم هنا مجازي كما في (رؤيا ١٤: ٨) وبعض القائلين بهذا قالوا به إثباتاً لرأيهم أن بطرس سكن في رومية ٢٥ سنة وكان أسقفها الأول. وقال بعض العلماء من الإنجيليين أن بطرس كان في رومية في زمان بولس وكتب رسالته منها ولكن لا دليل البتة على أنه سكنها ٢٥ سنة ولا أنه كان أسقفها. فبموجب هذا الرأي تكون بابل اسماً مجازياً لرومية إشارة إلى شرورها ومقاومتها لملكوت الله كما كانت بابل قديماً.

في ما اختصت به هذه الرسالة

مما اختصت به هذه الرسالة بيان أن الديانة المسيحية إتمام نبوءات العهد القديم وفيها كثير من التشابيه المأخوذة من ذلك العهد وإشارات إلى فرائضه وتاريخه ومن ذلك ما في (ص ١: ١٠ - ١٢ و٣: ٥ و٦ و٢٠). وليس من أسفار العهد الجديد مثلها في كثرة المقتبسات من العهد القديم أو العبارات المأخوذة منه فإن آياتها ١٠٥ ومنها ٢٣ آية مقتبسة من ذلك العهد وليس في رسالة أفسس سوى سبع ولا في رسالة غلاطية سوى ثلاث عشرة. وهذا ما يتوقع من بطرس بالنظر إلى كونه رسول الختان.

ومما اختصت به كثرة الإشارات إلى أقوال المسيح وذلك دليل على كونه شاهداً بما سمع من فم المسيح نفسه وأنه اعتبر المسيح كل الاعتبار وأحبه كل المحبة واتخذه سيداً ورباً. وكثيراً ما ذُكر المسيح في هذه الرسالة باعتبار كونه الوسيط وأن قيامته من الأموات تؤيد ذلك ولهذا قال «بها (أي قيامته) وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ» (ص ١: ٣) وأن إيمانهم بالله مبني على تلك القيامة (ص ١: ٢). وذكر المسيح مثالاً لنا في احتمال الأرزاء وآثر أن يذكره باعتبار كونه في حال الارتفاع قائماً من الأموات ممجداً على يمين الله رئيس الكنيسة معبود الملائكة على أن يذكره باعتبار كونه في حال الاتضاع. واختار أيضاً أن يذكره باعتبار ما سيكون في مجيئه الثاني على أن يذكره باعتبار ما كان عليه مدة مجيئه الأول. ولهذا دُعي «رسول الرجاء» كما دُعي بولس «رسول الإيمان» ويعقوب «رسول الأعمال» ويوحنا «رسول المحبة» لأن الرجاء مقدار تعليمه في هذه الرسالة وأفكاره كانت تتوجه وهو يكتبها إلى المستقبل فكان يتوقع ظهور المسيح ثانية والمجد الذي يُعلن له ولشعبه.

وكلام بطرس بسيط مؤثر قوي موقظ لم يُرتب على وفق ترتيب المواضيع لإثباتها على مقتضى الاستدلال المنطقي كأكثر رسائل بولس لكن رسالته هذه تُعدّ من أشرف رسائل العهد الجديد فإنها مملوءة تعزية للمصابين والمضطهدين وفرط لذّة للطاعنين في السن والمتعبين والثقيلي الأحمال من مصائب هذا العالم وبلاياه وضعفاته وبياناً لأن تلك المحن إعداد للمؤمنين لميراثهم السماوي.

في الغايات من هذه الرسالة

غايات الرسول من هذه الرسالة أربع:

    الأولى: تقوية المسيحيين وتعزيتهم في أثناء البلايا الشديدة.

    الثانية: إنهاض غيرة المسيحيين للقيام بالواجبات الروحية التي تقتضيها دعوتهم السماوية.

    الثالثة: إنذارهم من الأخطار الخاصة التي هم عرضة لها.

    الرابعة: إزالة كل ما في قلوبهم من الشكوك في صحة التعليم الذي أخذوه عن بولس الرسول وكماله وتوطيدهم على الأساس الذي وضعه رسول الأمم. وعبّر الرسول نفسه عن تلك الغايات بقوله «كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ وَاعِظاً وَشَاهِداً، أَنَّ هٰذِهِ هِيَ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلْحَقِيقِيَّةُ ٱلَّتِي فِيهَا تَقُومُونَ» (ص ٥: ١٢). وفيها نرى قيامه بتوصية المسيح إياه بقوله «وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا ٢٢: ٣٢).

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ

تحية وصلاة لله المثلث الأقانيم ع ١ إلى ٣

    ١ «بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى ٱلْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، ٱلْمُخْتَارِينَ».

    ٢بطرس ١: ١ وص ٢: ١١ ويعقوب ١: ١ وأعمال ٢: ٩ و١٦: ٧ ومتّى ٢٤: ٢٢ ولوقا ١٨: ٧

بُطْرُسُ هذا اسم الرسول اليوناني واسمه كيفا أي صفا بالسرياني ومعناه في الكل صخر وهو الاسم الذي دعاه المسيح به (انظر تفسير يوحنا ١: ٤٢) وهو دعا نفسه «سمعان بطرس» (٢بطرس ١: ١).

رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صرّح بسلطانه من المسيح بياناً لعلة مخاطبته الذين قبلوا الإنجيل من بولس لا منه. وذُكرت صفات الرسول الخاصة في تفسير (أعمال ١: ٢٢ و٢٣ ورومية ١: ١). وكان بولس يضيف إلى قوله رسول يسوع المسيح قوله «بمشيئة الله» أو ما هو في معناه ليثبت سلطانه الذين جهلوه أو أنكروه عليه. لكن لم يكن من داع لبطرس إلى ذلك لأن كل المؤمنين كانوا متيقنين أن المسيح دعاه رسولاً. واعتاد بولس أن يذكر رفقاءه في التحية لكي يجعل لكلامه زيادة أهمية كما ذكر في رسالتيه إلى تسالونيكي. ولم ير بطرس من موجب لذكر سلوانس ومرقس اللذين كانا معه لتقوية كلامه.

علينا أن ننتبه أن بطرس ذكر نفسه باعتبار كونه واحداً من الاثني عشر رسولاً ولم يدع أنه رئيس الرسل ولم يذكر شيئاً يدل على أنه الأول في الرسل كما يدّعي بعض النصارى اليوم.

ٱلْمُتَغَرِّبِينَ دعا الذين خاطبهم «متغربين» لأن منهم من كانوا من متنصري اليهود الذين تركوا اليهودية ولأن المسيحيين كلهم اعتبروا أن وطنهم السماء وأنهم ليسوا سوى «غرباء ونزلاء» على الأرض (عبرانيين ١١: ١٣).

شَتَاتِ غلب في العهد الجديد أن يعبّر «بالشتات» عن اليهود الذين سكنوا خارج الأرض المقدسة اختياراً أو اضطراراً كقول اليهود في المسيح «أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ ٱلْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ ٱلْيُونَانِيِّينَ» (يوحنا ٧: ٣٥). والذي يتضح مما في هذه الرسالة أن بطرس لم يكتب إلى متنصري اليهود فقط بل كتب إلى كل المسيحيين بقطع النظر عن الأصل لأن حال كل المسيحيين الذين بين الوثنيين كانت كحال اليهود الذين دعوا «شتاتاً».

بُنْتُسَ أحد أقسام أسيا الصغرى الخمسة المذكورة هنا وهي القسم الشمالي الشرقي. وذكر بطرس هذه الأقسام على الترتيب الذي يأتيه من يكتب من بابل فابتدأ ببنتس لأنها أقرب إلى بابل من سائر تلك الأقسام وانتهى ببيثينية لأنها أبعد. وهذا الترتيب خلاف ترتيب لوقا حين ذكر المجتمعين في أورشليم لعيد الخمسين. والكلام على بنتس بالتفصيل في تفسير (أعمال ٢: ٩).

غَلاَطِيَّةَ انظر الفصل الثاني من مقدمة الرسالة إلى غلاطية.

كَبَّدُوكِيَّةَ وُصفت في تفسير (اعمال ٢: ٩) وحُسبت أحياناً جزءاً من فريجية (أعمال ١٦: ٦).

أَسِيَّا هي جزء من أسيا الصغرى قصبته (أفسس ٢: ٩).

بِيثِينِيَّةَ (انظر تفسير أعمال ١٦: ٧ و٢٠: ٣١) والذي أوصل الإنجيل إلى هذه البلاد بولس ورفقاؤه (أعمال ١٦: ٦ و١٨: ٢٣ و١٩: ١ و١٠). وسمع كثيرون منهم الإنجيل في أورشليم في عيد الخمسين وآمنوا به يومئذ. وقيل أن بولس قصد في سفره الثاني للتبشير للذهاب إلى بيثينية لكن الروح القدس منعه من ذلك وقتئذ (أعمال ١٦: ٧).

ٱلْمُخْتَارِينَ من العالم شعباً لله ورثة للحياة الأبدية (يوحنا ١٥: ١٦ ورومية ٨: ٣٣ وكولوسي ٢: ١٢).

    ٢ «بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ ٱلسَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ».

    رومية ٨: ٢٩ ع ٢٠ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ ع ١٤ و٢٢ ورومية ١: ٥ و٦: ١٦ و١٦: ١٩ وعبرانيين ١٠: ٢٢ و٢: ٢٤ و٢بطرس ١: ٢

بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ هذا موافق لكل تعليم الإنجيل وهو أن الآب مصدر الفداء وأنه اختار شعبه للحياة الأبدية وبذل ابنه ليفديه (يوحنا ٦: ٣٧ و٦٥ و١٧: ٢ و٦ و١١ ورومية ٩: ١٦ وتيطس ٣: ٥). وفي هذا بيان مصدر ذلك الاختيار وهو أنه «مقتضى علم الله» (انظر تفسير رومية ٨: ٢٩) وهذا «العلم» يتضمن علاوة على معرفة عدد المختارين محبته إياهم والاعتراف بأنهم خاصته وأنه معتن بهم كما يتضمن ذلك قول المسيح «أعرف خرافي» (يوحنا ١٠: ١٤).

فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. وفي هذا بيان الواسطة التي بها يجري خلاص المختارين وهي أن يتجددوا بالروح القدس ليصيروا إلى صورة الله. إن الله اختار شعبه وهو خاطئ لكنه لم يقصد أن يبقى خاطئاً بل أن يقدس بنعمة روحه القدوس (٢تسالونيكي ٢: ١٣).

لِلطَّاعَةِ هذه هي الغاية التي لها اختارهم الله وهي ليست الغاية الأخيرة التي هي تمجيدهم في السماء ولكنها الغاية التي يبلغونها في هذا العالم قبل الموت والقيامة. «والطاعة» التي اختارهم الله لها هي التسليم بكل ما أُعلن في الإنجيل والقيام بما فيه من الواجبات وتُسمى «كطاعة الإيمان» (رومية ١: ٥ و١٦: ٢٦) «وطاعة المسيح» (٢كورنثوس ١٠: ٥) «وطاعة الحق» (ع ٢٢).

وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ كما قيل في (عبرانيين ٩: ١٩ و١٢: ٢٤). وهو ليس برش التطهير من النجاسة المذكور في (خروج ٢٤: ٨) لتثبيت العهد. وكما أن الله قطع عهداً مع شعبه القديم في طور سينا برشه إياه بدم الثيران كذلك قطع عهداً مع المؤمنين بموت المسيح وبذلك حسبهم مرشوشين بدمه. ومع أن القصد الأول إثبات العهد برش الدم جاز أن يحسب أيضاً رشاً لنفوسنا لكي تطهر من فساد الخطيئة تمهيداً لدخولنا العهد لله والكفارة لخطايانا لأنه لا أحد من المؤمنين يطيع شريعة الله الطاعة الواجبة. والواضح كل الوضوح من هذه الآية إثبات عقيدة التثليث لأنه ذكر فيها الآب والابن والروح القدس.

لِتُكْثَرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ السلام في قلب المؤمنين ثمر نعمة الله فيه. فطلب الرسول للمؤمنين أن يزدادوا كثيراً نيلاً لتلك الموهبة السماوية ونتيجتها المباركة. وذُكرت هذه الطلبة في (٢بطرس ١: ٢ وفي يهوذا ٢).

عظمة نعمة الله المعلنة بولادتهم الجديدة لرجاء حي بقيامة المسيح من الأموات وبميراثهم السماوي ع ٣ إلى ٥

    ٣ «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».

    ٢كورنثوس ١: ٣ وتيطس ٣: ٥ وغلاطية ٦: ١٦ وع ٢٣ ويعقوب ١: ١٨ وع ١٣ و٢١ وص ٣: ٥ و١٥ وعبرانيين ٣: ٦ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ و١يوحنا ٣: ٣ وص ٣: ٢١ و١كورنثوس ١٥: ٢٠

مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ تتضمن مباركة الله الشكر والحمد له (رومية ١: ٢٥ و٩: ٥ و٢كورنثوس ١١: ٣١).

أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ عُرف الله في العهد القديم بإله إسرائيل وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولكنه عُرف في العهد الجديد بأبي ربنا يسوع المسيح فكان بذلك أقرب إلينا ووهب لنا البركات العظمى. فالنسبة بين الله وابنه علة منحه إيانا مواهب النعمة وعلة بنوتنا له.

ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ إن الله غني في الرحمة (أفسس ٢: ٤) وعظمة شقائنا حملته على أن يشفق علينا كثيراً وأنه يتخذ وسائل لتجديدنا.

وَلَدَنَا ثَانِيَةً أشار بذلك إلى نقله إيانا من الحال التي نحن فيها بالطبيعة وهي حال الخطيئة والشقاء والتعرض للموت إلى حال النعمة والقداسة والسعادة والحياة وهذه الولادة فعل الروح وتسمى «ولادة من فوق» (يوحنا ٣: ٣). و «خليقة جديدة» (٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥) و «ٱلْمِيلاَدِ ٱلثَّانِي وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (تيطس ٣: ٥). و «الولادة من الله» (يعقوب ١: ١٨ و١يوحنا ٥: ١ و١٨). وهذا التجديد متوقف على كفارة المسيح واتحادنا به (ع ١٩ وص ٢: ٢٤ و٣: ١٨).

لِرَجَاءٍ حَيٍّ كنا في حال الطبيعة «بلا رجاء» ولكن ولادتنا الجديدة والنِسب الجديدة التي أدركناها بها أدخلتنا في حياة جوهرها الرجاء أي شدة التيقن حقيقة. والمراد بكون الرجاء حياً أنه محي وأنه قوي ومؤثر وينشئ الأعمال الصالحة وإن الغرض المنتظر منه هو الحياة الأبدية. إن كثيراً من آمالنا يموت قبلنا فندفنه ونبكي عليه أو يموت حين نموت ولكن ذلك الرجاء يبقى معنا إلى نهاية الحياة الأرضية وبعدها والذي ندركه في السماء أعظم مما رجوناه على الأرض (رومية ٨: ٢٤).

بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ على هذا بُنيت كل آمال المؤمن فإنه لما مات المسيح ودُفن وبقي في القبر مات كل ما في قلوب التلاميذ من الرجاء كما يُعلم من قول اثنين منهم «كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ» (لوقا ٢٤: ٢١). وكان تأثير مشاهدة المسيح بعد قيامته في بطرس وسائر الرسل مثل ولادة جديدة ومنذ ذلك الوقت صارت قيامة المسيح واسطة حياة جديدة للمؤمنين بالنظر إلى اتحادهم به بالإيمان فقاموا معه بقيامته وهم يحيون بحياته (ص ٣: ٢١ ورومية ٦: ٤ و١١). ولأن المسيح قام ويحيا إلى الأبد كان الرجاء المبني عليه حياً. إن قيامة المسيح أساس رجاء المؤمنين لأنها تحقق صحة كل ما ادعاه المسيح ووعد به وهي عربون قيامتهم (١كورنثوس ١٥: ١ - ٢٠ و٢تيموثاوس ١: ١٠ و١تسالونيكي ٤: ١٤).

    ٤ «لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ».

    أعمال ٢٠: ٣٢ ورومية ٨: ١٧ وكولوسي ٣: ٢٤ ص ٥: ٤ و٢تيموثاوس ٤: ٨ وعبرانيين ١١: ١٦

لِمِيرَاثٍ هذا متعلق «بولدنا» فإن الله لما ولدنا للرجاء ولدنا للميراث أيضاً بدليل قول بولس «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧). وميراث المؤمن ذُكر في (أعمال ٢٠: ٣٢ وأفسس ١: ١ و١٤ و١٨ وكولوسي ١: ١٢). وصار المؤمنون «ورثة» لأنهم أبناء الله بالتبني ووعدهم أبوهم السماوي بالسماء ميراثاً لهم وكان ذلك دليل حبه إياهم.

لاَ يَفْنَى لا يزول كالميراث الأرضي (١كورنثوس ٩: ٢٥) فنضطر أن نترك هذا الميراث بعد قليل وأما ذاك فهو أبدي.

وَلاَ يَتَدَنَّسُ كثيراً ما تتدنس المواريث الأرضية بأن تنال بالخداع وتُحرز بالظلم والاختلاس وكثيراً ما يدنس الوارث ميراثه بأن يُقاد به إلى الكسل والإسراف والتمتع باللذات الدنيئة. لكن الميراث الأبدي لا يلحقه شيء من هذه المدنسات فوارثه يتقدم دائماً في سبيل المعرفة والقداسة والرغبة في خدمة الله.

لاَ يَضْمَحِلُّ أي لا يزول مجده وبهاؤه خلافاً لبهاء الأزهار وجمال كل المقتنيات الأرضية. وصف ذلك الميراث بالصفات الثلاث المذكورة يثبت دوامه وطهارته وعدم تغيره. ولعل بطرس قابل في نفسه ميراث المؤمنين في السماء بميراث بني إسرائيل في الأرض المقدسة فإنه زال عنهم وتدنس بالأوثان والعصيان.

مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ لأنه عُيّن لكم وحُفظ لأن الله الذي منحه هو حافظه وهو أعده لكم منذ تأسيس العالم (متّى ٢٥: ٣٤). وفيه قال المسيح «أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً» (يوحنا ١٤: ٢). وهذا كتعليم المسيح في أمر كنز المؤمن وأجره في السماء (متّى ٦: ٢٠ و١٩: ٢١). وتعليم بولس بقوله «مِنْ أَجْلِ ٱلرَّجَاءِ ٱلْمَوْضُوعِ لَكُمْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (كولوسي ١: ٥). على الذين يقولون بأن المؤمنين يملكون مع المسيح على الأرض أن يتأملوا في هذه العبارة.

    ٥ «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلأَخِيرِ».

    فيلبي ٤: ٧ ويوحنا ١٠: ٢٨ وأفسس ٢: ٨ و١كورنثوس ١: ٢١ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ وص ٤: ١٣ و١٥ ورومية ٨: ١٨

أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ مَحْرُوسُونَ إن الذي يحفظ الميراث للورثة هو الذي يحفظ الورثة أنفسهم فلا يسمح بأن يرتدوا ويهلكوا. إنهم ضعفاء ومحاطون بتجارب كثيرة فإن تركوا لأنفسهم لم يرج أن يثبتوا. وأشدهم عزماً يعجز عن أن يثبت ولكن الله يثبتهم لأن قدرته غير محدودة (فيلبي ١: ٦ و٢تيموثاوس ١: ١٢ و٤: ١٨).

بِإِيمَانٍ إن الله لم يحفظهم بلا واسطة كما يحفظ الشمس في دورانها لكنه يحفظهم بإنشاء الإيمان في قلوبهم. فما دام لهم الإيمان بالله ومواعيد كلمته والتمسك بالذراع الإلهية لا يسقطون. ويلزم من هذا أن الله مع أنه قادر أن يحفظ المؤمنين دون سعيهم استحسن أن تتفق إرادة الإنسان وإرادته وأن لا يستعمل قوته لمساعدة الإنسان ما لم يستعمل الإنسان القوة التي منحه هو إياها.

لِخَلاَصٍ هذا متعلق بقوله «محروسون» فإن الله لا يزال يحرس المؤمنين حتى يخلصوا الخلاص التام بعد كل ما وقع عليهم من التجارب والمشقات والاضطهادات وما أتوه من الجهاد. وتيقن المؤمن أن الله قضى أن يحفظه «بإيمان لخلاص» هو من أقوى أركان التعزية. قال المسيح في خرافه «لاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» وقال أيضاً «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي» (يوحنا ١٠: ٢٨ و٢٩).

مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ أي معدٌّ ومستعدٌّ فما بقي إلا أن يرفع ما يحجبه عن العيون ومتى رُفع ذلك يُعلن.

فِي ٱلزَّمَانِ ٱلأَخِيرِ وهو الزمان الذي عيّنه الله (دانيال ١٢: ٩ و١٣). ونُعت «بالأخير» لأنه وقت نهاية العالم. وحينئذ يظهر لكل الملائكة والناس أن للمختارين ميراثاً حُفظ وهم محروسون لينالوه.

كثرة المصائب لا تمنع من السرور الناشئ عن الرجاء المذكور ع ٦ إلى ٩

    ٦ «ٱلَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ، مَعَ أَنَّكُمُ ٱلآنَ إِنْ كَانَ يَجِبُ تُحْزَنُونَ يَسِيراً بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ».

    رومية ٥: ٢ وص ٣: ١٧ و٥: ١٠ ويعقوب ١: ٢ وص ٤: ١٢

ٱلَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ الضمير في «بهِ» يرجع إما إلى كل ما ذُكر آنفاً من الولادة الجديدة ورجائهم الميراث وكونه محفوظاً لهم وهم له حتى لا يستطيع شيء أن يمنعهم من نيله والتمتع به إلى الأبد أو يرجع إلى الخلاص المذكور في الآية الأخيرة «المُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلأَخِيرِ». وغاية الرسول هنا أن يبين أن الأسباب الموجبة لفرحهم أعظم من الأسباب الموجبة لحزنهم. وإذا كانت هذه غايته كان الأولى أن يرجع الضمير إلى كل أسباب الفرح المذكورة في (ع ٣ - ٥). و «الابتهاج» يدل على أسمى صنوف الفرح كالفرح الذي نُسب إلى المسيح (لوقا ١٠: ٢١). وكالفرح الذي أمر تلاميذه بأن يفرحوه حين يُضطهدون من أجل المسيح (متّى ٥: ١٢). وكفرح مريم أم المسيح بتسبحتها (لوقا ١: ٤٧).

مَعَ أَنَّكُمُ ٱلآنَ إِنْ كَانَ يَجِبُ تُحْزَنُونَ يَسِيراً بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ المراد «بالتجارب» هنا كل المشقات بلا نظر إلى علتها (يعقوب ١: ٢) أو ما نشأ من الاضطهادات التي كانوا هم عرضة لها كما ذُكر في (ص ٣: ١٤ - ١٧ وص ٤: ١٢ - ١٩). ودُعيت «متنوعة» لكثرتها واختلافها من إهانة الأمم وتهمهم الكاذبة وخسارة المال والآلام الجسدية التي سمح الله أن يقعوا فيها لامتحان إيمانهم وصبرهم وثباتهم في الحق. ذُكر في هذه العبارة أمرين لتخفيف ثقل تلك النوازل:

الأول قوله «إن كان يجب» أن تحتملوها إتماماً لإرادة الله. وهذا يدل على أن الرزايا لا تأتي ما لم ير الله أنها ضرورية للنفع وأنها لا تحدث اتفاقاً وأن الله «لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي ٱلإِنْسَانِ» (مراثي إرميا ٣: ٣٣). وأن البلايا لا تزيد عدداً وثقلاً ومدة على ما قضت به حكمة الله ومحبته بالنظر إلى كونها ضرورية للنفع.

الثاني: قوله «يسيراً» فإنه دليل على أن مدتها قصيرة جداً بالنسبة إلى زمان الإثابة عليها فهي أمر يسري ولو صحبت كل حياتهم على الأرض. وهذا يشبه قول بولس «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (٢كورنثوس ٤: ١٧).

    ٧ «لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

    يعقوب ١: ٣ وأيوب ٣٣: ١٠ ومزمور ٦٦: ١٠ وأمثال ١٧: ٣ وإشعياء ٤٨: ١٠ وزكريا ١٣: ٩ وملاخي ٣: ٢ و١كورنثوس ٣: ١٣ ورومية ٢: ٧ و١٠ و٢كورنثوس ٤: ١٧ وعبرانيين ١٢: ١١ وص ٤: ١٣ ولوقا ١٧: ٣

في هذه الآية بيان الغاية الأولى من تلك المحن وهي تمهيد للغاية الثانية العظمى المذكورة في (ع ٩).

تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ أي إثبات أنه زكي بالامتحان (يعقوب ١: ٣).

وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ في هذا أمران الأول إن تزكية إيمانهم أهم من نقاوة الذهب بالامتحان باعتبار نتائج التزكية. والثاني إن الإيمان نفسه على ما يستلزمه المعنى أثمن من الذهب عينه. ووصف «الذهب بالفاني» لأنه مادة فله كل صفات المادة العامة. وإذا كان الذهب الذي لا يُستعمل إلا إلى حين ويفنى بالاستعمال يحتاج إلى الامتحان بالنار فبالأولى أن إيمانهم بالمسيح الذي يبقى إلى الأبد (١كورنثوس ١٣: ١٣) يحتاج إلى الامتحان لكي يظهر أنه خالص من كل غش وكثيراً ما يشبه امتحان الإيمان بامتحان الذهب بالنار (أيوب ٣٣: ١٠ ومزمور ٦٦: ١٠ وإرميا ٩: ٧ وزكريا ١٣: ٩ وملاخي ٣: ٢). وكما أن الذهب يتنقى بالنار من الغواشي كذلك يتنقى الإيمان بالتجارب من الاتكال على النفس وعلى الحكمة البشرية والبر الذاتي والقوة الذاتية.

تُوجَدُ الضمير في «توجد» راجع إلى تزكية إيمانهم بواسطة التجارب. والمعنى أنه يعرفها في اليوم الأخير بعد ذلك الامتحان الله الديان وكل المشاهدين من الملائكة والبشر (متّى ٢٥: ٢٣ و١تيموثاوس ٤: ٨ وعبرانيين ١٢: ١١ ويعقوب ١: ١٢ ورؤيا ٢: ٨ - ١٠).

لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ نسب الرسول إلى السماويات ما اعتاد الناس أن ينسبوه إلى الأشياء التي يستحسنونها فيمدحونها قولاً ويحزنون فاعليها فعلاً برفع مقامهم ويعظمونهم فكراً. و «الْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ» ليست سوى جزء مما يثيب به الله من نعمته عبيده الأمناء بعد احتمالهم الامتحانات وهذا مثل ما في (متّى ٢٥: ٢١ ويوحنا ١٢: ٢٦ ورومية ٢: ٧ و١٠ و٩: ٢٣ و١كورنثوس ٤: ٥ و٢كورنثوس ٣: ١٨ وفيلبي ٣: ٢١ ورؤيا ٢٢: ٤).

عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي عند مجيئه ثانية في الزمان الأخير (ع ٥) ليدين العالم (٢تيموثاوس ٤: ١) واستعلانه بالمجد يقترن «باستعلان أبناء الله» (رومية ٨: ١٩) بدليل قوله «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (ص ٤: ١٣).

    ٨ «ٱلَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذٰلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ ٱلآنَ لٰكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ».

    أفسس ٣: ١٩ ويوحنا ٢٠: ٢٩

ٱلَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ قبل استعلانه المنتظر وبدون مشاهدتكم إياه وهو في الجسد. كتبت هذه الرسالة للمؤمنين المتغربين من الشتات (ع ١) فلم تكن لهم الفرصة التي كانت لبطرس وسائر الرسل وهي فرصة مشاهدة المسيح وهو على الأرض في الجسد لكنهم سمعوا نبأه من صفاته وتعليمه ومعجزاته وموته من أجلهم على الصليب ولذلك أحبوه. ولا تخلو كلمات بطرس هنا من شيء من الشفقة كأنه قال ليتكم رأيتموه كما رأيته فتحبونه أكثر مما أحببتموه.

ذٰلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ ٱلآنَ لٰكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ كان إيمانهم الإيمان الذي وُصف في الرسالة إلى العبرانيين وعُرف بأنه «الإيقان بأمور لا تُرى» (عبرانيين ١١: ١). وتظهر أهمية هذه الفضيلة من أنها قد كُررت ثلاثاً في آيات قليلة من هذه الرسالة. وهذا الإيمان هو الذي مدحه المسيح بقوله لتوما «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا ٢٠: ٢٩). وبُني إيمانهم (فضلاً عما سمعوه من أموره) على أنهم اقتربوا منه في الصلاة ونالوا منه ما طلبوه وهو أعلن نفسه لقلوبهم بروحه القدوس الذي كان «يأخذ مما له ويخبرهم به» (يوحنا ١٦: ١٥). وكذلك ألوف وربوات منذ ذلك الوقت إلى الآن ما رأوه إلا بعين الإيمان ولكنهم أحبوه أكثر من كل من سواه.

فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ الإيمان بالمسيح ينشئ محبة له ويقين رجاء الخلاص الذي ينشأ عنه أعظم المسرات. قال يوحنا في التلاميذ إذ شاهدوا يسوع بعد قيامته «فَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ» (يوحنا ٢٠: ٢٠). ولكن الفرح المذكور هنا الذي لا نقدر أن نتصور أعظم منه لم يُنسب إلى الذين نظروه بل إلى الذين آمنوا به. وهذا كل الذي بقي لبطرس حين كتب هذه الكلمات ولمن كتب إليهم ولسائر المسيحيين منذ ذلك الوقت إلى الآن لكن الذين يشعرون بفرط ذلك الابتهاج قليلون. إن هذا الفرح ثمر الإيمان والمحبة وهما يفعلان معاً وكل منهما يسند الآخر حتى إذا سأل أحد ماذا أفعل لكي أحب المسيح فالجواب آمن به وإن سأل كيف أومن به فالجواب أحببه. وبعض ذلك الابتهاج يناله المؤمن على الأرض لكن وصفه بأنه «مجيد» يدل على أنه الابتهاج في السماء فإذا قابلنا به كل فرح أرضي كان بالنسبة إليه زهيداً جداً فانياً.

 ٩ «نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ ٱلنُّفُوسِ».

    رومية ٦: ٢٢

يعسر علينا القطع بأن هذه الآية تشير إلى ما يحصل المؤمن عليه وهو على الأرض بالإيمان والرجاء أو ما سيحصل عليه في السماء. فإن كان ما يحصل عليه وهو على الأرض كان معناها أن ذلك الرجاء الحي يجعله ينظر إلى الثواب المستقبل كأنه قريب منه ومحقق إلى حد أن يفرح به كأنه حصل بين يديه كما كان من أمر الآباء بالنظر إلى المواعيد فإنهم «مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين ١١: ١٣). وإن كان ما يحصل عليه في السماء كان معناها أنهم يحصلون على ذلك الابتهاج بعد موتهم وذهابهم إلى السماء فيختبرون هنالك ما انتظروه هنا.

إن غاية الساعي في السباق هي إدراك قصب السبق وغاية المجاهد الإكليل الذي يُكلل به وهو منتصر (١كورنثوس ٩: ٢٤ و١تيموثاوس ٤: ٧ و٨ وعبرانيين ١٢: ١). وغاية إيمان المسيحي هي خلاص نفسه وهي نهاية الإيمان لنيله ما كان يؤمن به ويرجوه ولتحول الإيمان إلى اختبار. وأما قول بولس الرسول «بثبات الإيمان والرجاء» (١كورنثوس ١٣: ١٣) فيصح بدوام الخلاص الذي نيل ومظاهر جديدة لهما. فالمرجح أن مراد الرسول «بغاية الإيمان» نيل الثواب في السماء الذي يتمتع به إلى أبد الآبدين.

إن الرسول جمع هنا «بالخلاص» كل ما وُعد به المؤمن من نتائج طاعة المسيح وموته وشفاعته ونعمة الآب من النجاة من جهنم ونيل القداسة والسعادة في حضرة الله والملائكة الأطهار والمفديين من الناس. ويسمى الخلاص في الكتب الإلهية «الحياة الأبدية» (رومية ٦: ٢٢). وكونه مستحقاً أن يكون غاية الإيمان يظهر من قول المسيح «مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ» (متّى ١٦: ٢٦). وقوله في بذله حياته لخلاص الناس (متّى ٢٧: ٤٢). وأضاف الخلاص إلى النفوس لأن النفس الجزء الأسمى من الإنسان وهي عرضة للخطر الأعظم وقابلة للسعادة العظمى ولكن إضافته إلى النفوس لا تمنع أن الأجساد تشترك في الخلاص بدليل قول بولس في المسيح «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١).

إن عظمة هذا الخلاص تتبين من كونه موضوع نبوآت العهد القديم وإعلان الإنجيل وموضوع بحث الملائكة ع ١٠ إلى ١٢

    ١٠ «ٱلْخَلاَصَ ٱلَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، ٱلَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ».

    ع ١٠ - ١٢ ومتّى ١٣: ١٧ ولوقا ١٠: ٢٤ ومتّى ٢٦: ٢٤ ولوقا ٢٤: ٢٧ و٤٤ وع ١٣ وكولوسي ٣: ٤

ٱلْخَلاَصَ ٱلَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ مراده بالخلاص واضح من وصفه بأنه «ولادة ثانية لرجاء حي» (ع ٣) وأنه «مستعد أن يعلن في الزمان الأخير» وأن المؤمنين «يبتهجون برجاء نيله» ابتهاجاً لا يوصف مع أنهم في هذه الحياة محاطون بتجارب كثيرة متنوعة (ع ٦). وأضاف إلى ما قاله ثلاثة أشياء تثبت عظمة هذا الخلاص ليرغب قارئي رسالته في أن يتمسكوا به (ع ١٣). الأول أنه موضوع بحث أنبياء العهد القديم ونسب إليهم ما نُسب إلى الذين يحفرون في جوف الأرض بغية أن يجدوا الجواهر الثمينة (أيوب ٢٨: ١٥ - ١٩ وأمثال ٣: ١٤ - ١٨). والأنبياء هنا منهم دانيال وإشعياء وداود ويوئيل بدليل قول دانيال «أَنَا دَانِيآلَ فَهِمْتُ مِنَ ٱلْكُتُبِ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَنْهَا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ لِكَمَالَةِ سَبْعِينَ سَنَةً عَلَى خَرَابِ أُورُشَلِيمَ. فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى ٱللّٰهِ ٱلسَّيِّدِ طَالِباً بِٱلصَّلاَةِ وَٱلتَّضَرُّعَاتِ، بِٱلصَّوْمِ وَٱلْمَسْحِ وَٱلرَّمَادِ» (دانيال ٩: ٢ و٣). وقول المسيح «أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا» (لوقا ١٠: ٢٤). وقول بطرس في يوئيل (أعمال ٢: ١٦ و١٧) وفي داود (أعمال ٢: ٣١ و٣: ٢٤). والذي رغبوا في أن يعرفوه هو معنى نبوآتهم التي ألهمهم الروح القدس أن يتكلموا بها وكانت تلك النبوآت موضوع بحثهم لا نتيجته. وقول بطرس هنا يشبه قول المسيح «طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ ٱشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا الخ» (متّى ١٣: ١٦ و١٧). وغاية المسيح من هذا كغاية بطرس من قوله وهو أن يعتبروا الإعلان ويفرحوا بأن كُشف لهم ما كُتم عن الأنبياء.

 

ٱلَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ هذا إما وصف لمعنى كل نبوآت العهد القديم وأما بيان أن النبوآت التي أشار إليها مختصة بالنعمة المعلنة في الإنجيل لا النبوآت المتعلقة ببابل وأشور ومصر ونحوها. وهذه النعمة هي التي أتى بها المسيح المؤمنين (الذين بطرس منهم) بإتيانه بالجسد وتعليمه وموته كل ما يتعلق بذلك كما هو معلن في الإنجيل. وفسر كلامه هنا في الآية الآتية وهي قوله «الذي كان يدل عليه روح المسيح إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها».

    ١١ «بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا ٱلْوَقْتُ ٱلَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِٱلآلاَمِ ٱلَّتِي لِلْمَسِيحِ وَٱلأَمْجَادِ ٱلَّتِي بَعْدَهَا».

    رومية ٨: ٩ و٢بطرس ١: ٢١ ومتّى ٢٦: ٢٤ ولوقا ٢٤: ٢٧ و٤٤

بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا ٱلْوَقْتُ هذا تفصيل للبحث المذكور آنفاً. إنهم عرفوا بإتيان الخلاص لكنهم جهلوا وقته وأسلوبه وحقيقته وعلموا أنهم تكلموا فيه بالوحي لكنهم لم يفهموا سوى بعض ما أُعلن لهم لأن فيه أسراراً لم يدركوها بدليل قول بضعهم «وَأَنَا سَمِعْتُ وَمَا فَهِمْتُ» (دانيال ١٢: ٨). إن الله لم يتخذ الأنبياء معازف يضرب العازف أوتارها ليُظهر انفعالات قلبه. ولا نحسب أنهم فهموا كل ما كتبوه فلا نظن أن إشعياء مثلاً فهم ما كتبه في شأن عمانوئيل وأنه يولد من عذارء كما فهمنا نحن من أمر يسوع ومريم أمه لكنهم كانوا بين الأمرين أي بين أن أدركوا ككتبة البشائر وكونهم مجرد آلات.

ٱلَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي فِيهِمْ المراد بهذا «الروح» هو الروح القدس وقال إنه «روح المسيح» لأنه هو الروح الذي كان في المسيح منذ الأزل باعتبار كونه «كلمة الله». وأنه «خبّر» بأمور الآب. وأنه «مملوء نعمة وحقاً». وأنه «نور» الكنيسة (متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ١٧: ١٤ و١٥). وهذا موافق لقول أحد الأنبياء «رُوحُ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (٢صموئيل ٢٣: ٢). والذي سماه بولس في موضع «روح الله» سماه في آخر «روح المسيح» (رومية ٨: ٩). وكان أولئك الأنبياء متعلمين من المسيح قبل أن يأتي متجسداً فأخبرهم أنه يأتي لكنه لم يخبرهم أنه هو يسوع وما عيّن لهم العصر الذي يأتي فيه ولا أحوال ذلك العصر مثل أنه وقت حرب أو وقت سلام وأن الأمة اليهودية تكون مستقلة حينئذ أو مستعبدة. وتلك النبوآت لم تزل مبهمة إلى عصر المسيح (متّى ٢٢: ٤٢ ولوقا ٣: ١٥ و٢٣: ٣٥ ويوحنا ٣: ٢٨ و٧: ٢٦ و٤١ وأعمال ٢: ٣٦).

فَشَهِدَ بِٱلآلاَمِ ٱلَّتِي لِلْمَسِيحِ ومن شهاداته النبوءات التي في (إشعياء ٥٢: ١٣ - ٥٣: ١٢ ودانيال ٩: ٢٥ - ٢٧). وعسر على اليهود كثيراً أن يتصوروا المسيح متألماً وأنه يأتي بآلامه بخلاص شعبه الخاص وسائر العالم (متّى ١٦: ٢١ و٢٢ ولوقا ٢٤: ٢٥ - ٢٧ وأعمال ٣: ١٨ و٨: ٢٩ - ٣٤ و١٣: ٢٧ و١٧: ٣ و٢٦: ٢٣).

وَٱلأَمْجَادِ ٱلَّتِي بَعْدَهَا وهي التي قصد الله أن يثيب المسيح بها على آلامه. ودلوا على تلك الأمجاد بإنبائهم بقيامة المسيح وصعوده وجلوسه على يمين الآب وخلاص شعبه الناشئ عن ذلك وبإتيانه أخيراً ليدين العالم (مزمور ١٦: ٨ - ١١ وإشعياء ٣٨: ١١ وأعمال ٢: ٢٥ - ٢٨) فصح أن يُقال أن الإنجيل كله إتمام لتلك النبوآت.

    ١٢ «ٱلَّذِينَ أُعْلِنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ ٱلآنَ بِوَاسِطَةِ ٱلَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُرْسَلِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. ٱلَّتِي تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا».

    ع ٢٥ وص ٤: ٦ وأعمال ٢: ٢ - ٤ ولوقا ٢: ١٣ وأفسس ٣: ١٠ و١تيموثاوس ٣: ١٦

كانت الآية الحادية عشرة تفسيراً لقوله «فَتَّشَ وَبَحَثَ» (ع ١٠). وأول هذه الآية تفسير لقوله «تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ» (ع ١٠).

لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ أي أن الإعلان لم يكن جواباً لما فتشوا وبحثوا عنه بل كان لنفع الذين بعدهم كما يتضح من القول في الرسالة إلى العبرانيين «هٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ، مَشْهُوداً لَهُمْ بِٱلإِيمَانِ، لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوْعِدَ، إِذْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَنَظَرَ لَنَا شَيْئاً أَفْضَلَ، لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا» (عبرانيين ١١: ٣٩ و٤٠). ومثال ذلك أنباء الله بأن الأمم يشتركون في النعمة المعطاة لليهود. ولم يقصد الرسول بقوله «لنا» أناساً معينين بل المؤمنين كلهم ممن كتب إليهم وغيرهم في عصر المسيح وما بعده.

أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ ٱلآنَ بِوَاسِطَةِ ٱلَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ هذا الأمر الثاني الذي يثبت عظمة الخلاص المعلن في الإنجيل. أراد بقوله «أنتم» مؤمني بنتس وغلاطية وكبدوكية الخ وهم الذين خاطبهم بهذه الرسالة. وقصد بمن بشروهم الرسل أو المبشرين بالإنجيل. ولم يقل بواسطتي أنا الذي أبشركم لأن أكثرهم قبلوا الإنجيل بواسطة بولس فأراد أن يثبت تبشير بولس بشهادته كما فعل في الرسالة الثانية (٢بطرس ٣: ١٥).

فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُرْسَلِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي الروح الذي تكلم بأنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد وبرهان ذلك المعجزات التي صنعوها إثباتاً لتعليمهم كما حدث يوم الخمسين وأوقاتاً أُخر كثيرة من الكنيسة الأولى. وهذا على وفق ما قيل في رسالة العبرانيين «كَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هٰذَا مِقْدَارُهُ، قَدِ ٱبْتَدَأَ ٱلرَّبُّ بِٱلتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا، شَاهِداً ٱللّٰهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ» (عبرانيين ٢: ٣ و٤). وقول بولس «أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلاَمِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضاً، وَبِالرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ» (١تسالونيكي ١: ٥).

ٱلَّتِي تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا هذا الأمر الثالث الذي يدل على عظمة الخلاص المعلن في الإنجيل. وهذه الأشياء التي رغب الأنبياء في البحث عنها في شأن آلام المسيح والأمجاد التي بعدها. وهي من أسرار الفداء الذي قال فيه بولس الرسول «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦ انظر تفسير أفسس ٣: ١٠ و١كورنثوس ٤: ٩) وذكر رغبة الملائكة في الاطلاع على أمور الخلاص ليدل على أن هذه الأمور مستحقة اعتناء القراء بها وثبوتهم فيها وشكرهم لله عليها.

ولا ريب في أن الملائكة تشتهي أن تطلع على كل الأمور التي تُعلن صفات الله وكل مقاصده. والمرجّح أن الملائكة يحصلون على معرفة الله باجتهادهم كالناس. إنه ليس من طبيعتهم أن يعرفوا كل شيء فيحتاجون إلى التفتيش والبحث واستعمال كل قواهم لكي يفهموا ما أُبهم عليهم من مقاصد الله. وقول المسيح «يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (لوقا ١٥: ١٠) يبرهن أن الملائكة يهتمون بإنقاذ الساقطين. وهذا ينتج أيضاً من كونهم «جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ» (عبرانيين ١: ١٤) واشتراكهم في عمل الفداء ظاهر من (متّى ١: ٢٠ و٤: ١١ و٢٨: ٢ و لوقا ١: ٢٦ و٢: ٩ و٢٢: ٤٣ ويوحنا ١: ٥١).

إن عظمة الخلاص أوجبت عليهم الغيرة والصحو والرجاء والطاعة والقداسة والتقى ع ١٣ إلى ٢١

    ١٣ «لِذٰلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ، فَأَلْقَوْا رَجَاءَكُمْ بِٱلتَّمَامِ عَلَى ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

    أفسس ٦: ١٤ وص ٤: ٧ و٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٦ و٨ و٢تيموثاوس ٤: ٥ ورومية ١٢: ٣ وتيطس ٢: ٦

لِذٰلِكَ بناء على كل ما سبق في عظمة الخلاص الذي دُعيتم إلى الاشتراك فيه بالنعمة.

مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ أي استعدوا للاجتهاد في الروحيات اجتهاد أهل العالم في الدنيويات. فالكلام مجاز مأخوذ من عمل الإسرائيليين في الاستعداد للهرب (خروج ١٢: ١١). وما كان من إيليا استعداداً للجري أمام آخاب (١ملوك ١٨: ٤٦). وهذا مثل قول المسيح لتلاميذه «لتكن أحقاؤكم ممنطقة» (لوقا ١٢: ٣٥). وأمر المسيح تلاميذه بذلك ليستعدوا لمجيئه ثانية. والغاية من كلام بطرس الغاية من كلام المسيح عينها وهي الإستعداد لذلك المجيء.

صَاحِينَ أي في حال اليقظة والانتباه (ص ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٦ و١تيموثاوس ٣: ٢ وتيطس ١: ٨).

فَأَلْقَوْا رَجَاءَكُمْ بِٱلتَّمَامِ هذا تصريح ونص بوجوب الرجاء التام الخالص من كل ريب ويأس هم عرضة لهما مما يحيط بهم من المشقات ومقاومة الأعداء وارتداد الأصحاب.

عَلَى ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ أي الخلاص الذي يحصلون عليه عند مجيء المسيح ثانية (ع ١٠).

عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ في مجده الذي هو الآن محجوب عنا وهو يستعلن فيه حين يأتي ليدين العالم ويثيب شعبه (ع ٧ وكولوسي ٣: ٤ و٢تسالونيكي ١: ٧) فارجع إلى التفسير هناك.

    ١٤ «كَأَوْلاَدِ ٱلطَّاعَةِ لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ ٱلسَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ».

    رومية ١٢: ٢ وص ٤: ٢ وأفسس ٤: ٨

كَأَوْلاَدِ ٱلطَّاعَةِ دعاهم «أولاداً» بالنظر إلى نسبتهم إلى الآب وأنهم «ولدوا ثانية» (ع ٣) وأنهم «ورثة» (ع ٤). ومعنى العبارة أنهم يسلكون كما يليق بأولاد الله غير متمردين كبني إسرائيل في أكثر أوقاتهم فإن المتمردين أولاد الغضب (أفسس ٢: ٣ و٢بطرس ٢: ١٤).

و «أولاد الطاعة» هم «أولاد النور» (أفسس ٥: ٨) وهم يظهرون الطاعة لله بخضوعهم لإرادته وحفظهم أوامره واتكالهم عليه دائماً كاتكال الأولاد على والدهم المحب.

لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ ٱلسَّابِقَةَ ذكّرهم هنا بسلوكهم قبل أن آمنوا ونهاهم عن كل ما يشبهه. وبيّن يوحنا تلك الشهوات بقوله «لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ ٱلآبِ بَلْ مِنَ ٱلْعَالَمِ» (١يوحنا ٢: ١٦). ووصفها بولس بأنها من «أعمال الجسد» (غلاطية ٥: ١٩) وكانوا سابقاً أسرى تلك الشهوات.

فِي جَهَالَتِكُمْ هذا ما امتاز به الوثنيون (أفسس ٣: ١٨) فإنهم جهلوا الله وأموره وجرم الخطيئة وخطر الهلاك والمسيح وطريق الخلاص.

    ١٥ «بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ».

    ١تسالونيكي ٤: ٧ و١يوحنا ٣: ٣ و٢كورنثوس ٧: ١ ويعقوب ٣: ١٣

نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ أي اتخذوا الله مثالاً واقتدوا به على وفق قول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٤٨). وقول بولس «وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» وقوله «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ» (أفسس ٤: ٢٤ و٥: ١). وقول يوحنا «وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هٰذَا ٱلرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ» (١يوحنا ٣: ٣). و «القدوس» الصفة التي أعلن الله بها غالباً في العهد القديم في جانب الآلهة الوثنية.

ٱلَّذِي دَعَاكُمْ الدعوة المقصودة هنا هي دعوة أن يكونوا أولاد الله (رومية ٨: ٣٠ وغلاطية ١: ٦ و٢بطرس ١: ٣ و١يوحنا ٣: ١).

كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ أمام الله والناس. والمعنى كمعنى ما في ١: ٢٧ فارجع إلى التفسير.

    ١٦ «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ».

    لاويين ١١: ٤٤ و١٩: ٢٠ و٢٠: ٧

لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ (لاويين ١١: ٤٤ و١٩: ٢ و٢٠: ٢) كان هذا الأمر المكتوب موجهاً إلى الإسرائيليين ويصح أن يوجه إلى المسيحيين لكونهم شعب الله أيضاً. وبناء على ذلك وجب أن يتمثلوا بالله ويؤيد ذلك قول النبي «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلشُّعُوبِ يَسْلُكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِٱسْمِ إِلٰهِهِ، وَنَحْنُ نَسْلُكُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ» (ميخا ٤: ٥).

    ١٧ «وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَباً ٱلَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ».

    مزمور ٨٩: ٢٦ وإرميا ٣: ١٩ وملاخي ١: ٦ ومتّى ٦: ٩ و١٦: ٢٧ وأعمال ١٠: ٣٤ وص ٢: ١١ وأفسس ٢: ١٩ وص ٣: ١٥ و٢كورنثوس ٧: ١ وعبرانيين ١٢: ٢٨

وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَباً ٱلَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ «إن» هنا للقطع لا للشك. ومراد الرسول من العبارة أن الذي تدعوه أباً هو ديان أيضاً وأنه يرى أعمالنا دائماً ويميز بينها بالنظر إلى كونها من مطيع أو من عاص. ولم يشر هنا إلى قضاء يوم الدين الذي وكله الآب إلى الابن (يوحنا ٥: ٢٢). بل إلى ما يحكم به كل يوم وساعة وقال «بغير محاباة» دفعاً لتوهم اليهود أنهم لا يدانون لكونهم أولاد إبراهيم وظنوا أنهم تبرروا جميعاً بنسبتهم إليه. ودفع يوحنا المعمدان هذا الوهم بقوله «لاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ» (متّى ٣: ٩). إن الله ينظر إلى القلب والعواطف كما ينظر إلى الأعمال ويقابلها كلها بشريعته المقدسة وليس له قانون يدين به اليهود يختلف عن القانون الذي يدين به الأمم وليس عنده قياس للأغنياء وقياس للفقراء. فإنه تعالى منع موسى من دخول الأرض المقدسة لمعصية واحدة وهذا أقوى دليل على أن لا محاباة عنده (٢أيام ١٩: ٧ وأعمال ١٠: ٣٤ ورومية ٢: ١١). وقال «حسب عمل كل واحد» لا أعمال كل واحد لأنه ينظر إلى أعمال الإنسان جملة ويحكم بحسب أسلوبها إن كان عاملها صالحاً أو شريراً مطيعاً أو عاصياً راغباً في رضى الله أو في رضى نفسه خادماً لله أو خادماً لإبليس. وجاء مثل هذا في قول بولس الرسول «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (٢كورنثوس ٥: ١٠). وقول المسيح «هَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ» (رؤيا ٢٢: ١٢).

فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ قال «بخوف» احترازاً من أن يغيظوا الله من نتائج إغاظته لأنه على قدر ما يعظم الإنسان رضى الله يخشى أن يفعل ما يحرمه إياه. فلا شيء يفصل بين الله والنفس سوى الخطية ولذلك يخاف شعبه من أن يسقطوا فيها. و «فِي مَخَافَةِ ٱلرَّبِّ ٱلْحَيَدَانُ عَنِ ٱلشَّرِّ» (أمثال ١٦: ٦). وعلى هذا قوله تعالى «أَقْطَعُ لَـهُمْ عَهْداً أَبَدِيّاً... وَأَجْعَلُ مَخَافَتِي فِي قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَحِيدُونَ عَنِّي» (إرميا ٣٢: ٤٠) ولهذا قال الحكيم «طُوبَى لِلإِنْسَانِ ٱلْمُتَّقِي دَائِماً» (أمثال ٢٨: ١٤ انظر تثنية ٦: ٢ و١٣ و٢٤ وأمثال ١: ٧ و١٤: ٢٦ و٢٧). ولا شيء في هذا الخوف ما ينافي الإيمان لأن الرسالة التي فيها الكلام على الإيمان أكثر من غيرها جاء فيها ما نصه «فَلْنَخَفْ، أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ وَعْدٍ بِٱلدُّخُولِ إِلَى رَاحَتِهِ، يُرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مِنْهُ» (عبرانيين ٤: ١). فالخوف أفضل وسيلة إلى الحفظ من الكفر بدليل قول النبي «قَدِّسُوا رَبَّ ٱلْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ. وَيَكُونُ مَقْدِساً» (إشعياء ٨: ١٣ و١٤). فخوف المؤمن الذي هو التقوى بعينها يختلف كل الاختلاف عن خوف الإنسان الذي «خشيته تضع شركاً» (أمثال ٢٩: ٢٥). ومن هذا حذر المسيح تلاميذه بقوله «لاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلٰكِنَّ ٱلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متّى ١٠: ٢٨). ويختلف عن الخوف الوهمي (إرميا ١٠: ٢). وقوله «سيروا زمان غربتكم بخوف» يستلزم وجوب أن نخاف كل مدة حياتنا على الأرض لأن هذه الأرض بالنظر إلى المؤمنين بلاد غربة. والأخطار التي تحيط بهم هي التي تحيط بالمسافرين في أرض غريبة فيها أعداء كثيرون وخطر دائم (عبرانيين ١١: ١٣). وهذا الأمر تعزية لأن فيه تلميحاً أنه لا داعي إلى الخوف إلا زمناً يسيراً وأنه تنتهي سياحتهم في أرض الغربة بعد قليل فيصيرون إلى بيت أبيهم حيث الأمن التام فلا خطيّة ولا تجربة ولا خطر.

    ١٨ «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ».

    إشعياء ٥٢: ٣ و١كورنثوس ٦: ٢٠ وتيطس ٢: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و٢بطرس ٢: ١ ومتّى ٢٠: ٢٨ وفيلبي ٤: ١٧

عَالِمِينَ ذكرهم بما عرفوه من الثمن العظيم الذي أدى بغية نجاتهم من الإثم لكي يوجب عليهم أن يعيشوا بالتقوى والقداسة.

ٱفْتُدِيتُمْ الفداء هنا وفي موضع آخر من الكتاب المقدس تأدية ثمن النجاة من الأسر والعبودية (متّى ٢٠: ٢٨ ومرقس ١٠: ٤٥ و١تيموثاوس ٢: ٦ وتيطس ٢: ١٤).

لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ذكر الذهب والفضة دون غيرها لأنهما يؤديان غالباً فدية عن أسرى الحرب. ونسب إليهما «الفناء» لأنهما يفنيان بالاستعمال أو لأنهما يتلاشيان مع سائر مواد العالم.

وصرّح بطرس للمؤمنين الذين كتب إليهم هذه الرسالة بأنهم مفديون من الخطيئة والموت وهما عبودية الأسر في بابل. والفدية منهما أعظم ما يؤدي فداء عن العبيد والأسرى.

سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ فداؤهم من الخطيئة والموت يستلزم بالضرورة الفداء من السيرة الباطلة. وتلك السيرة حالهم قبل أن آمنوا بالمسيح وتجددوا بالروح القدس. ونعت تلك «السيرة بالباطلة» لأنهم كانوا قد انفصلوا بها عن الله. وكانت حالهم بذلك كحال الوثنيين وعبادتهم غير نافعة كعبادة الوثنيين (رومية ١: ١٨ و١كورنثوس ٨: ٤).

ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ تلك «العبادة الباطلة» اتصلت من الآباء إلى الأبناء ومن الجيل السابق إلى الجيل اللاحق فاكتفوا بأنها قديمة. وكانوا مربوطين «بسيرتهم الباطلة» بربط الولادة والقرابة والعادة والقدوة وما استطاعوا أن ينجوا منها إلا بقوة أعظم من قوة الذهب والفضة. وكانت ديانة اليهود في عصر المسيح الديانة التي أخذوها عن الكتبة والفريسيين أشد أعداء المسيح الذي أتى ليخلص شعبه (أعمال ١٣: ٣٩).

    ١٩ «بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ».

    أعمال ٢٠: ٢٨ وع ٢ ويوحنا ١: ٢٩ وعبرانيين ٩: ١٤

بِدَمٍ كَرِيمٍ هذا هو الثمن المؤدي فدية عنهم ويؤيد ذلك قول بولس «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ الخ» (رومية ٣: ٢٤ و٢٥). ونُعت «بالكريم» بالنظر إلى قيمته في ذاته لأنه دم ابن الله أي حياته التي لا شيء في العالمين خير منها وبالنظر إلى تأثيره في إنشاء الفداء الذي يستحيل أن ينشأ بالفضة والذهب.

كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ حُسب الحمل أي الخروف أطهر البهائم وكانت الحملان المختارة للتقدمة أطهر الحملان (خروج ١٢: ٥ وتثنية ٢٨: ٣ و١١ ولاويين ٤: ٣٢ و٢٢: ٢٠ وعبرانيين ٩: ١٤). وعلى ذلك كان حمل التقدمة رمزاً إلى المسيح الذي هو «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ» (عبرانيين ٧: ٢٦) وقدّم لله ذبيحة كفارة عن الخطأة (يوحنا ١: ٢٩ و٣٥ - ٤٢ وإشعياء ٥٣: ٧ و١ كورنثوس ٥: ٧ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وعبرانيين ٧: ٢٦).

    ٢٠ «مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ».

    أعمال ٢: ٢٣ ع ٢ وأفسس ١: ٤ ورؤيا ١٣: ١٨ ومتّى ٢٥: ٣٤ وعبرانيين ٩: ٢٦ و٢: ١٤

مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ أي قضى الله به منذ الأزل. وهذا مثل قول يوحنا «أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ ٱلْحَمَلِ ٱلَّذِي ذُبِحَ» (رؤيا ١٣: ٨). وقول بطرس في يوم الخمسين «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أعمال ٢: ٢٣). وفي هذا برهان على عظمة الخلاص بيسوع وكونه حقاً يقيناً فإن الله قضى به منذ الأزل وقضى أن يكون فداؤهم بذبيحة المسيح فإنه تعالى لم يسلم ابنه للموت ليصلح ما حدث فيه بعد الخليقة بأربعة آلاف سنة حين خطئ الإنسان وأفسد طريقه على الأرض ولم تكن بشارة الفداء بالمسيح أمراً اخترعه بولس من نفسه وعلمهم إياه خلافاً لما في العهد القديم الذي صنعه الله لشعبه.

 

قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ إن الله أعلن منذ الأزل من يكون مسيحه أي حمله «الذي يرفع خطية العالم» وأين يولد ولكنه كتم تمام إعلانه منذ العصور الخالية مع أن الأنبياء قد أنبأوا بمجيئه وآلامه فأُعلن لهم جلياً لكي يفهموه ويقبلوه. وأراد بقوله «من أجلكم» كل المؤمنين بالمسيح كما في (١كورنثوس ٢: ٧). وأراد «بالأزمنة الأخيرة» كل المدة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني (أعمال ٢: ١٧ و٢تيموثاوس ٣: ١).

    ٢١ «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَأَعْطَاهُ مَجْداً، حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي ٱللّٰهِ».

    أعمال ٢: ٢٤ ورومية ٤: ٢٤ و١: ٩ وعبرانيين ٣: ٩ و١تيموثاوس ٣: ١٦ ويوحنا ١٧: ٥ و٢٤

أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ كان إيمانهم بالمسيح وسيلة إلى تقوية إيمانهم بالله وهذا مثل قول المسيح «ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا ١٢: ٤٤). فإذاً تعليم الخلاص بالمسيح ليس بتعليم حديث يختلف عن إيمان قدماء الإسرائيليين الأتقياء.

ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ كما أبان بوعظه في يوم الخمسين وغيره (أعمال ٢: ٢٣ و٢٤ و٣: ١٥ و٢٦ و٥: ٣٠) وكما قال بولس (أعمال ١٣: ٣٠ و٣٣ - ٣٧).

وَأَعْطَاهُ مَجْداً بعد أن أقامه من الأموات (أفسس ١: ٢٠) وأصعده إلى السماء وأجلسه على يمينه (يوحنا ١٧: ١ ورومية ٦: ٤ و٨: ١١ وفيلبي ٢: ٩ وأفسس ١: ٢٠ و٢١ و١تيموثاوس ٣: ١٦).

حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي ٱللّٰهِ أي حتى إن إيمانكم بالمسيح المقام من الأموات ورجاء الخلاص به يحملانكم على الإيمان بالله الآب الذي أقامه ومجده وعلى رجاء الخلاص منه لأن الآب أظهر بذلك قوته وأمانته العظمى في مواعيده.

وجوب المحبة الأخوية بناء على ما سبق من كونهم غرباء ونزلاء ومفديين بثمن واحد وعلى ما يأتي من كونهم مولودين ثانية بكلمة الله ع ٢٢ إلى ٢٥

    ٢٢ «طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ ٱلْحَقِّ بِٱلرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ ٱلْعَدِيمَةِ ٱلرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ».

    يعقوب ٤: ٨ ويوحنا ١٣: ٣٤ ورومية ١٢: ١٠ وعبرانيين ١٣: ١ وص ٢: ١٧ و٣: ٨ و١تيموثاوس ١: ٥

طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ إن تقديس النفس من الأعمال المختصة بالروح القدس لكن ذلك لا يمنع الإنسان من الاجتهاد في نيله لا بل يوجب عليه أن يبذل ما في وسعه في سبيل الطهارة حتى لا تكون نعمة الله قد مُنحت له عبثاً. فالتطهير الذي احتاجوا إليه تمهيداً للمحبة الأخوية المطلوبة في هذه الآية هو التطهير من محبة الذات وهي «نظر كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ» (فيلبي ٢: ٤) ومن الحسد والبغض.

فِي طَاعَةِ ٱلْحَقِّ بِٱلرُّوحِ إن طاعة الإنجيل الذي هو إعلان الحق هي الواسطة التي يتخذها الروح القدس لتنقية قلوب المؤمنين من حب الذات والحسد والبغض (يوحنا ٣: ٥ وتيطس ٣: ٥ و٦). إن الحق لا يطهر القلب بدون فعل الروح القدس والروح القدس لا يفعل إلا بواسطة الحق وقبول الإنسان إياه بالطاعة.

لِلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ ٱلْعَدِيمَةِ ٱلرِّيَاءِ أي أنه لا بد من تطهير القلب تمهيداً لسبيل هذه المحبة لعلهم كانوا غير مخلصين المحبة الأخوية لكون بعضهم من متنصري الأمم وبعضهم من متنصري اليهود.

فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً الخ هذا يستلزم أن تكون المحبة خالصة وأن تكون شديدة (انظر يوحنا ١٣: ٣٤ و٣٥ وأفسس ٥: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ وعبرانيين ١٣: ١ و١يوحنا ٣: ١٤ - ١٨ وتفسير ذلك).

    ٢٣ «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ».

    ع ٣ ويوحنا ٣: ٣ و١: ١٣ وعبرانيين ٤: ١٢

مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً بنى وجوب المحبة الأخوية على دخولهم حياة جديدة لأن المحبة من شرائع تلك الحياة وعلامة اشتراكهم فيها كأنهم دم واحد وأعضاء جسد المسيح بالإيمان.

لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى لم يحصلوا على الولادة الجديدة بتسلسلهم من والديهم لأن ذلك التسلسل عرضة للفناء إذ كل الذين يولدون ولادة طبيعية يموتون. وقال هذا دفعاً لما افتخر به اليهود واتكلوا عليه من تسلسلهم من إبراهيم طبيعياً وعدم نفع هذا التسلسل من الأسباب الحاملة لمتنصري اليهود على أن لا يستهينوا بمتنصري الأمم.

بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى لأنهم مولودون من الله ولادة روحية (يوحنا ١: ١٣ و١يوحنا ٣: ٩).

بِكَلِمَةِ ٱللّٰه (يعقوب ١: ١٨) أي بالإنجيل الذي هو وسيلة إلى الخلاص لمن يسمعونه أو يقرأونه ولا سيما ما أُعلن فيه من أمور القيامة (ع ٣) «وآلام المسيح والأمجاد التي بعدها» (ع ١١). وهذا على وفق قول الرسالة إلى العبرانيين «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين ٤: ١٢).

ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ بالنظر إلى مؤلفها الله المؤثر بواسطتها. فلكلام الله القوة التي لصوته الذي يقيم الموتى (يوحنا ٥: ٢٨ و٢٩). ولا فرق هنا بين كلمة الله والله نفسه الذي يفعل بواسطتها ويجعلها حية بحياته ودائمة بدوامه. ومثل هذا جاء في الرسالة إلى العبرانيين فإنها نسبت في بعض المواضع إلى الله ما نسبته في موضع آخر إلى كلمته (عبرانيين ٤: ١٢ و١٣). و «كلمة الله الحية» محيية أيضاً فالذين يقبلونها يحيون بها وهي باقية إلى الأبد فحياة النعمة الناشئة عنها لا تزول بل تكون بداءة حياة المجد الأبدية.

    ٢٤ «لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. ٱلْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ».

    إشعياء ٤٠: ٦ الخ ويعقوب ١: ١٠

في هذه الآية إثبات الله لما قاله وهو أن «كلمة الله حية وباقية إلى الأبد». وما يأتي إثباتاً لذلك مقتبس من (إشعياء ٤٠: ٦ - ٨) وقد اقتبس بعضه بلفظه ومعناه وبعضه بمعناه فقط.

لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ أي كل الناس بالنظر إلى طبيعتهم الجسدية لأنهم مولودون من زرع يفنى فهم كالعشب في عدم الثبوت «ٱلإِنْسَانُ مِثْلُ ٱلْعُشْبِ أَيَّامُهُ. كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ يُزْهِرُ. لأَنَّ رِيحاً تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ» (مزمور ١٠٣: ١٥ و١٦ انظر أيضاً أيوب ٨: ١٢ و١٤: ٢ ومزمور ٩٠: ٥ و٦ وإشعياء ٣٧: ٢٧).

وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ أي كل ما يفتخر به الإنسان من غنى ومقام وعلم وجمال صورة بهاء ثياب سريع الزوال.

ٱلْعُشْبُ يَبِسَ الخ كما يشهد الاختبار دائماً فكذلك مجد الإنسان.

    ٢٥ «وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا».

    عبرانيين ٦: ٥

وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ أي تبقى ولا تتغير كالأمور الأرضية المختصة بالبشر من أجسادهم ومساكنهم وممالكهم فإنها تتغير وتتلاشى.

وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ المراد بهذا ما أشار إليه إشعياء «بكلمة الله الحية الباقية» (ع ٢٣). وهذا يصدق على الإنجيل لأن مواعيده تبقى بلا تغير على توالي العصور وحقائقه أزلية كالله الذي أوحى به ونتائجه أبدية في الأفراد والكنائس والممالك المستنيرة بها.

ٱلَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا بواسطة بولس أولاً وبواسطتي ثانياً. أراد بطرس أن يحقق لهم أن ما بشر هو به وليس سوى التعليم الذي نادى به بولس ورفقاؤه وهو كلمة الله الحي الحية.

الأصحاح الثاني

ينقسم هذا الأصحاح إلى ثلاثة أقسام:

الأول: حث المؤمنين المولودين من فوق أن يطرحوا عن أنفسهم كل خبث ومكر وأشبهاهما وأن يقبلوا كلمة الله باجتهاد ورغبة لكي ينموا في الحياة الروحية كما يشتهي المولودون حديثاً القوت الموافق لهم وينالون بذلك القوة الجسدية والنمو الجسدي (ع ١ - ٣).

الثاني: بيان البركات التي نالوها بإيمانهم وقصر غيرهم عنها (ع ٤ - ١٠) وتفصيل تلك البركات.

    إنهم اتخذوا المسيح حجراً حياً بُني عليه هيكل الله الروحي وقد رفضه غيرهم فصاروا بقبولهم إياه كهنوتاً مقدساً لكي يقدموا لله تقدمات روحية مرضية لله تعالى (ع ٤ و٥).

    كان المسيح كرامة لهم لكونه أساس كل رجائهم وتحققوا متانة هذا الأساس الذي شك فيه غيرهم وأنكروه (ع ٦ - ٨).

    إنهم الآن جنس مختار وأمة مقدسة وعينهم الله لكي يمجدوه على الأرض مع أنهم لم يكونوا سابقاً من شعب الله وكانوا محسوبين خارج دائرة رحمته (ع ٩ و١٠).

الثالث: بيان ما يجب عليهم بالنظر إلى تلك البركات والنسب التي منحهم إياها (ع ١١ - ٢٥) وتفصيل ذلك.

    إنهم يعيشون كغرباء معتزلين الشهوات ويسلكون في سنن القداسة بين الأمم المحيطين بهم (ع ١١ و١٢).

    وجوب الخضوع للحكام (ع ١٣ - ١٧).

    وجوب أن يخضع العبيد لسادتهم وإن ظلموهم (ع ١٨ - ٢٠).

    إن يتمثلوا هم بالمسيح الذي احتمل الآلام الشديدة بصبر ويتوقع أنهم يسلكون في خطواته.

وجوب النمو بالحق ع ١ إلى ٣

    ١ «فَٱطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ وَكُلَّ مَكْرٍ وَٱلرِّيَاءَ وَٱلْحَسَدَ وَكُلَّ مَذَمَّةٍ».

    أفسس ٤: ٢٢ و٢٥ و٣١ ويعقوب ١: ٢١ و٤: ١١

فَٱطْرَحُوا بناء على ما سبق من أمر ولادتهم الروحية وما عليهم أن يطرحوه هو كل ما هو متعلق بحياتهم القديمة الشريرة وهم عبيد للشيطان وما لا يوافق الحياة الجديدة التي اشتركوا فيها. والمراد «بطرحها» إنهم لا يرجعون إليها بل يحسبونها خرقة نجسة ألقوها عنهم مرة إلى الأبد (رومية ١٣: ١٢ وأفسس ٤: ٢٢ و٢٣ وكولوسي ٣: ٨).

خُبْثٍ المراد «بالخبث» هنا إرادة الإنسان أذى غيره بغضاً له وانتقاماً منه (رومية ١: ٢٩ و١كورنثوس ٥: ٨ وأفسس ٤: ٣١ وكولوسي ٣: ٨ وتيطس٣: ٣).

مَكْرٍ (ص ٢: ٢٢ و٣: ١٠) والمراد «بالمكر» هنا كل نوع من أنواع الخداع (انظر تفسير رومية ١: ٢٩ و٢كورنثوس ١٢: ١٦ و١تسالونيكي ٢: ٣).

ٱلرِّيَاءَ أي ادعاء الإنسان ما ليس فيه من الفضيلة أو القداسة (انظر تفسير غلاطية ٢: ١٣ و١تيموثاوس ٤: ٢).

ٱلْحَسَدَ هو هنا غضب الإنسان على غيره لأنه حصل على ما لم يحصل هو عليه (رومية ١: ٢٩).

مَذَمَّةٍ (٢كورنثوس ١٢: ٢٠) أمر بطرس المؤمنين أن يبذلوا جهدهم ليتخلصوا من هذه الرذائل نتائج فساد طبيعتهم الأصلي باستعمال الوسائط التي أعدها الله لتنقيتهم منها ونموهم في المعرفة والبر والقداسة.

    ٢ «وَكَأَطْفَالٍ مَوْلُودِينَ ٱلآنَ ٱشْتَهَوْا ٱللَّبَنَ ٱلْعَقْلِيَّ ٱلْعَدِيمَ ٱلْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ».

    متّى ١٨: ٣ و١٩: ١٤ ومزمور ١٠: ١٥ ولوقا ١٨: ١٧ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ و٣: ٢ وأفسس ٤: ١٥

كَأَطْفَالٍ مَوْلُودِينَ ٱلآنَ (ص ١: ٢٣) شبّه التغير الذي ظهر فيهم يوم آمنوا بالولادة إيماء إلى الحال التي كانوا فيها وهم وثنيون أو يهود وانتقالهم إلى الحياة الجديدة. فحسب ذلك كتغير الجنين إلى أن يولد فيه ينتقل إلى حال النور والطهارة والحرية وقبول النمو جسداً وعقلاً وبه يدخل عالماً جديداً. فسقوطهم في الخطايا التي أمرهم أن يطرحوها يبرهن أنهم ليسوا بالغين بل إنهم كأطفال في المسيح في الضعف والاحتياج. وقصد بولس بهذا التشبيه أن يشير بالأكثر إلى احتياج الطفل المولود الآن واحتياج المؤمن إلى القوت المناسب للحياة الجديدة ووجوب أن يشتهي المؤمنون القوت الروحي اشتهاء الطفل القوت الجسدي. وأتى المسيح بهذا التشبيه في مخاطبته لتلاميذه بقوله «إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ ٱلأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ١٨: ٣).

ٱشْتَهَوْا ٱللَّبَنَ ٱلْعَقْلِيَّ أي اطلبوه برغبة كما يطلب الطفل لبن أمه غير ملتفت إلى سواه. فالقوت الذي يجب على المؤمنين أن يطلبوه وُصف «بالعقلي» تمييزاً له عن اللبن الحقيقي فإنه هو القوت الذي يلائم عقل الإنسان ونفسه وأنه هو القوت الذي أعده الله لكي يقيت طبيعة الإنسان الروحية المخلوقة على صورته تعالى وحقيقته الإنجيل الذي قبلوه من بولس ورفقائه وقد ذُكر في (ص ١: ٢٣). والحق المعلن في الإنجيل الذي يقتات به عقل الإنسان المستنير بالروح القدس هو القوت الوحيد الكافي الذي أعده الله غذاء لأولاده على هذه الأرض لكي يستعدوا ويكونوا أهلاً لخدمته هنا ولتمجيده في السماء.

 

ٱلْعَدِيمَ ٱلْغِشِّ أي الخالص من كل الشوائب من تقاليد اليهود والفلسفة اليونانية. وهذا كقول المرنم «نَامُوسُ ٱلرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ ٱلنَّفْسَ. شَهَادَاتُ ٱلرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ ٱلْجَاهِلَ حَكِيماً. وَصَايَا ٱلرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ ٱلْقَلْبَ. أَمْرُ ٱلرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ ٱلْعَيْنَيْنِ» (مزمور ١٩: ٧ و٨ انظر أيضاً يعقوب ١: ٢١).

 

لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ كما ينمو الأطفال بلبن الأمهات حتى يبلغوا البلوغ الجسدي. كذلك ينمو المؤمنون حتى يبلغوا الخلاص التام ويصيروا أولاد الله على وفق قول يوحنا الرسول «ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وهذا يشير إلى أكثر من النجاة من جهنم ويتضمن نيل الحياة الأبدية في السماء. وتمثيله تقدمهم «بالنمو» يشير إلى زيادتهم رويداً رويداً في القداسة حتى يصيروا مشابهين لصورة المسيح. واعتبر كلمة الله واسطة لذلك النمو إذا دُرست وتؤمل فيها مع طلب مساعدة الروح القدس على إدراك معناها والانتفاع بها لأن مجرد الأكل بالفم لا يقوي الجسد فمجرد قراءة الكلمة أو مجرد سمعها كفرض من فروض العبادة لا يقيت النفس.

    ٣ «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ صَالِحٌ».

    عبرانيين ٦: ٥ ومزمور ٣٤: ٨ وتيطس ٣: ٤

إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ «إن» هنا للقطع لا للشك فكأنه قال لأنكم ذقتم حلاوة تعليم الإنجيل في شأن المسيح أول إيمانكم استمروا على طلب ذلك التعليم لكي تغتذوا به. فاتخذ الرسول كلمات داود النبي (مزمور ٣٤: ٨) بياناً لمراده فكما أن داود سرّ بمواعيد الله بأن يحميه وهو هارب من شاول انتعش المسيحيون وتقووا بالمسيح نفسه الذي هو خبز الحياة. فعليهم أن يستمروا على الجوع إلى تعليمه في الإنجيل لكي ينموا به هم وأولادهم في الحياة الروحية.

وجوب الاستمرار على الإيمان بالمسيح الأساس الوطيد وإن رفضه بعض الناس ع ٤ إلى ٦

    ٤ «ٱلَّذِي إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ، حَجَراً حَيّاً مَرْفُوضاً مِنَ ٱلنَّاسِ، وَلٰكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ ٱللّٰهِ كَرِيمٌ».

ٱلَّذِي إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ أي الذي لا تفتأون تقتربون إليه إظهاراً لثقتكم به ومحبتكم إياه وغيرتكم في خدمته ووسيلة الإتيان إليه والصلاة له وقراءة كلامه والاقتيات به بالإيمان على ما هو معلن في الإنجيل.

حَجَراً حَيّاً أي معتبريه كذلك فعدل بطرس هنا عن تشبيه المؤمنين بالأطفال وشبههم بأجزاء هيكل عظيم روحي أبقى وأمجد من هيكل أورشليم المادي. قصد الرسول أن يبين مجد الهيكل الروحي ولذلك أبان مجد أساسه وهو أنه المسيح عينه وهذا موافق لما قيل في (متّى ٢١: ٤٢ وأعمال ٤: ١١ ورومية ١١: ١١ وأفسس ٢: ٢٠). وتشبيه المسيح «بالحجر» يشير إلى كونه مستحقاً أن يوثق به بالنظر إلى رزانته وحقه وأمانته. ووصف «الحجر بالحي» تمييزاً للمسيح عن كون الحجر جماداً لا حياة له. فنسب إليه صفات الحياة والنور لأن المسيح حي ومحي بدليل قوله «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا ٥: ٢٨ انظر يوحنا ٦: ٤٨ و١٤: ١٩ وأعمال ٢: ٢٨). فيليق أن يكون أساس هيكل الله الحي حياً وأن تكون حجارته كذلك (ع ٢٥). وعلى هذا سمي المسيح «الخبز الحي» و «الماء الحي» (يوحنا ٤: ١٠ و٦: ٥١). ومما يستحق الذكر هنا هو أن بطرس لم يشر البتة إلى كونه صخراً وأن المسيح بنى كنيسته عليه كما فسر بعضهم قول المسيح في (متّى ١٦: ١٨) مع أن هنا محل ذكره لو كان حقاً.

مَرْفُوضاً مِنَ ٱلنَّاسِ كما قيل في (مزمور ١١٨: ٢٢) واقتُبست هذه الآية منه أيضاً في (ع ٧). والمراد «بالناس» هنا رؤساء اليهود الذين باعتبار كونهم بنائي هيكل الله رأوا أنهم قادرون على أن يحكموا بما يجب أن تكون صفات هيكله تعالى فلم يجدوها في المسيح ولهذا لم يعطوه مقام الإكرام في الهيكل بل رفضوا أن يكون له فيه محل مطلقاً إذ ادعوا أنه مضل وطلبوا قتله بناء على زعمهم أنه مجدف وخائن (إشعياء ٥٣: ٣ وتفسير متّى ٢١: ٤٢) وكما رفض اليهود المسيح بطلبهم موته يومئذ يرفضه اليوم كل الذين لا يقبلونه مخلصاً.

وَلٰكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ ٱللّٰهِ كَرِيمٌ هذا يبين عظمة الفرق بين اعتبار الله للمسيح واعتبار اليهود له فالذي رفضوه هو الذي إياه اختار الله منذ الأزل (ص ١: ٢٠). مستحقاً أن يكون أساس هيكله ورأس زاويته فالذي استهانوا به اعتبره الله أكرم من كل من سواه في الوجود (متّى ٣: ١٧).

    ٥ «كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ ٱللّٰهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

    ١كورنثوس ٣: ٩ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وغلاطية ٦: ١٠ ع ٩ وإشعياء ٦١: ٦ و٦٦: ٢١ ورؤيا ١: ٦ وعبرانيين ١٣: ١٥ ورومية ١٥: ١٦

كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ أي قوموا بكل ما عليكم لتكونوا مبنيين على المسيح الأساس الذي وضعه الله لأن وضعه ذلك الأساس مكنكم من أن تبنوا عليه وأوجب عليكم أن تبنوا عليه.

كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ يبني بها الهيكل الروحي الذي هو مسكن الله العلي وواسطة تمجيده في العالم. فكما أن الأساس «حجر حي» (ع ٤) وجب أن تكون سائر أجزاء الهيكل حية. وصار المؤمنون كذلك باتحادهم بالمسيح وبنائهم عليه موافقة لقوله «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩).

بَيْتاً رُوحِيّاً نعته «بالروحي» لتمييزه عن كل بيت أو هيكل مصنوع بأيد ولكونه مسكن الروح القدس وهذا هو الغاية من بنائهم على المسيح وهو ينافي زعم اليهود أن هيكل الله في أورشليم هو هيكل الله الحق وأنهم هم وحدهم رعية الله الخاصة. وهذا موافق لقول بولس الرسول «فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ، مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ، ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ. ٱلَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلّٰهِ فِي ٱلرُّوحِ» (أفسس ٢: ١٩ - ٢٢).

كَهَنُوتاً مُقَدَّساً هذا بيان قصد الله من بنيانهم على الأساس الذي هو المسيح. كان في عهد موسى تحت العهد القديم هيكل الله (أي الشعب الذي يعبد الله فيه) ممتازاً عن الكهنوت. لكن في العهد المسيحي صار الاثنان واحداً لأن الكنيسة بيته وكهنوته معاً. حسب بطرس كل جماعة المؤمنين كهنة لا فرقة من فرق الكنيسة كخدم الدين. ونعت ذلك الكهنوت «بالمقدس» لأنه فرز لعابد الله وأذن له بالاقتراب منه تعالى للاعتراف بخطاياه ونيل المغفرة. إن خدم الدين في الإنجيل امتازوا عن عامة الشعب بالنبوءة والتعليم إذ قيل حين صعد المسيح إلى العلاء «أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَٱلْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَٱلْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ» (أفسس ٤: ١١). ولم يقل فقط أعطى البعض أن يكونوا كهنة تمييزاً عن بقية الشعب فإذاً الكنيسة كلها كهنة والكهنوت غير مقصور على بعضها.

لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ لما كان المؤمنون «بيتاً روحياً وكهنوتاً مقدساً» ولم يبق من حاجة إلى هيكل خاص في أورشليم وكهنوتاً ممتازاً خاصاً وجب أن يكون لهم ما يقدمونه من القرابين بالنظر إلى كونهم كهنة لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين وذبائح (عبرانيين ٨: ٣) ولزم أن تكون قرابينهم موافقة لخدمتهم الروحية أي قرابين روحية لا مادية كالثيران والغنم والمعزى التي كانت تُقدم في العهد القديم. وكان بمقتضى ذلك العهد أن يقدَّم لله أولاً ذبائح دموية لتكفير الخطايا ولتهيئة طريق الاقتراب إلى الله وقيل بعد تقدمة تلك الذبائح أن تقدم ذبائح وقف الذات لله وذبائح الحمد والشكر له. وأُعد بموجب العهد الجديد طريق الاقتراب إلى الله بذبيحة المسيح كفارة مرة إلى الأبد فلم يبق بعد ذلك من احتياج إلى الكهنة لتقديم ذبائح الكفارة. وبقي للمسيحيين أن يقدموا أنفسهم لله بدليل قول الرسول «أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ، عِبَادَتَكُمُ ٱلْعَقْلِيَّةَ» (رومية ١٢: ١) وأن يقدموا له أيضاً تقدمات الحمد والشكر التي تُعرف أيضاً «بثمر الشفاه» (عبرانيين ١٣: ١٥ انظر أيضاً مزمور ٥٠: ٣ و١٦: ١٧ وهوشع ١٤: ٣) «والصلوات التي عدّت بخوراً» (مزمور ١٤١: ٢ ورؤيا ٨: ٣ و٤). و «أعمال البر» بدليل قوله «لاَ تَنْسَوْا فِعْلَ ٱلْخَيْرِ وَٱلتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هٰذِهِ يُسَرُّ ٱللّٰهُ» (عبرانيين ١٣: ١٦) و «القلب المنكسر المنسحق» (مزمور ٥١: ١٧) والطاعة التي فُضلت على سائر الذبائح (١صموئيل ١٥: ٢٢) وسكب الحياة من أجل المسيح (فيلبي ٢: ١٧).

مَقْبُولَةٍ عِنْدَ ٱللّٰهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بناء على تقديمه نفسه ذبيحة كفارة على الصليب وشفاعته في السماء فبدون المسيح لا تكون تقدمات شكرنا لله أكثر قبولاً من دخول كنعاني قدس الأقداس يوم الكفارة العظيمة (عبرانيين ٩: ٢٤ و٢٥ و١٠: ١٩ - ٢٢).

    ٦ «لِذٰلِكَ يُتَضَمَّنُ أَيْضاً فِي ٱلْكِتَابِ: هَئَنَذَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ زَاوِيَةٍ مُخْتَاراً كَرِيماً، وَٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لَنْ يُخْزَى».

    إشعياء ٢٨: ١٦ وع ٦ و٨ ورومية ٩: ٣٢ و٣٣ و١٠: ١١ وأفسس ٢: ٢٠

رجع بطرس عن وصف الهيكل الروحي إلى وصف المسيح أساسه وكلامه مقتبس من (إشعياء ٢٨: ١٦). حسب الترجمة السبعينية وصرّح فيه بأن غاية الله في البناء أن يجعل المسيح رأسه أو حجر الزاوية.

هَئَنَذَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ (انظر تفسير رومية ٩: ٣٣ وأفسس ٢: ٢٠). وما قيل هنا من أن النبوءة المتعلقة بصهيون تمت بالمسيح بيان للمؤمنين من اليهود إنهم لم يخسروا حقوقهم بالنظر إلى كونهم عبرانيين لأنهم يجدون في المسيح كل ما كان لآبائهم.

بيان إكرام المسيحيين بأنهم إسرائيل الحقيقي ع ٧ إلى ١٠

    ٧ «فَلَكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُؤْمِنُونَ ٱلْكَرَامَةُ، وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ فَٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ».

    ع ٧ و٨ و٢كورنثوس ٢: ١٦ ومتّى ٢١: ٤٢ ومزمور ١١٨: ٢٢ ولوقا ٢: ١٤

أصاب الرسول بأن أظهر للمؤمنين ما حصلوا عليه من إكرام الله إياهم بواسطة إيمانهم بالمسيح عوضاً عما خسروه من إكرام الناس لأن متنصري اليهود لما آمنوا به طُردوا من الهيكل والأمة وحُسبوا غرباء ومتنصري الأمم خسروا كل حقوقهم المتعلقة بدين آبائهم.

فَلَكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُؤْمِنُونَ ٱلْكَرَامَةُ أي عين الكرامة التي للأساس أو حجر الزاوية الذي وصفه في الآية السادسة بأنه «مختار كريم» وزاد على ذلك هنا إن الله يعتبر المبنيين عليه بالإيمان شركاء له في الكرامة وأن لا داعي إلى أن يخزوا به كما خزي به رؤساء اليهود لأن كل مواعيد الله لإسرائيل تمّت به.

وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ أي لا يقبلون البراهين على أن يسوع المسيح هو الأساس ولا يؤمنون به.

فَٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ رفضه أولاً رؤساء اليهود فإنهم أبوا أن يتخذوه أساس رجائهم للخلاص وطلبوا نوعاً آخر من المخلّص والملك (انظر تفسير متّى ٢١: ٤٢ وأعمال ٤: ١١ ورومية ٩: ٣٣). ورفضه ثانياً كل الذين يبنون رجاءهم الخلاص على غيره.

هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ للمؤمنين المبنيين عليه وهذه العبارة مقتبسة من (مزمور ١١٨: ٢٢). و «رأس الزاوية» هو الحجر الذي يستقر عليه كل البناء وهو الذي يربط كل أجزائه حتى تكون واحداً. والمقصود بهذا التمثيل بيان أن اتحاد كل المؤمنين بالمسيح يجعلهم متحدين بعضهم ببعض (أفسس ٢: ٢٠ - ٢٢). وصار أيضاً بمقتضى القرينة زينة ومجداً لهم بخلاف ما كان لغيرهم.

    ٨ «وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ. ٱلَّذِينَ يَعْثُرُونَ غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْكَلِمَةِ، ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي جُعِلُوا لَهُ».

    إشعياء ٨: ١٤ و١كورنثوس ٢: ٢٣ وغلاطية ٥: ١١ ورومية ٩: ٢٢

حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ هذا مقتبس من (إشعياء ٨: ١٤). وهو إيضاح لما ينتج لرافضي المسيح من رفضهم إياه. وليس المراد «بالصدمة» هنا شكهم فيه بل خزيهم وإضرارهم كما في (إرميا ١٣: ١٦ وأمثال ٤: ١٩ ودانيال ١١: ١٩). وهو موافق لقول المسيح «كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» (لوقا ٢٠: ١٧ و١٨). وكانت صدمتهم علة خراب هيكلهم ومدينتهم وأمتهم. كذلك يهلك بخطاياهم كل الذين يرفضون أن يتخذوا المسيح مخلصاً لهم.

غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْكَلِمَةِ هذا يبين أن علة صدمتهم عدم إطاعتهم لقول الله الذي يكلّفهم أن يؤمنوا بابنه (يوحنا ٣: ١٦ - ١٩ ومتّى ١٧: ٥). والمراد «بالكلمة» هنا الإنجيل الذي يُعلن المسيح وعظمته وهذه الكلمة هي التي ينمو المؤمنون بها (ع ٢). وهي التي تكون لغير المؤمنين علة دينونة وهلاك.

ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي جُعِلُوا لَهُ قال هذا ليبيّن أن رفض اليهود للمسيح وصدمتهم به ليسا بالاتفاق ولا مما لم ينتظره الله بل كان بمقتضى قصد الله منذ الأزل وما تنبأ به أنبياء العهد القديم. لا يمكننا أن نعرف تمام المعرفة قصد الله في أمر الذين يخلصون وأمر الذين يهلكون ويتضح مما قيل هنا أن الله عيّن يسوع المسيح أن يكون أساس كنيسته وأن ينادي بأنه مخلص العالم وأن كل من يؤمن به يخلص وأن كل من لا يؤمن به يهلك بخطاياه وأن دينونته تكون أعظم من دينونة غيره من الرافضين لأنه رفض المسيح بعد معرفته إياه وبعبارة أخرى إن الله عيّن يسوع المسيح كرامة وخلاصاً للمؤمنين وحجر صدمة وصخرة عثرة للعصاة والرافضين وأنه عرف منذ الأزل من هم الذين يؤمنون ويخلصون ومن يرفضون ويهلكهم وعيّن كلاً من الفريقين (انظر تفسير يوحنا ١٢: ٣٩ و٤٠ ورومية ٩: ١٥ - ١٨).

    ٩ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ ٱلْعَجِيبِ».

    تثنية ١٠: ١٥ وإشعياء ٤٣: ٢٠ وخروج ١٩: ٦ وتثنية ٧: ٦ وتيطس ٢: ١٤ وأعمال ٢٦: ١٨ وإشعياء ٤٢: ١٦ و٢كورنثوس ٤: ٦

نسب في هذه الآية إلى المؤمنين بالمسيح كل الألقاب والحقوق التي كانت لإسرائيل قديماً.

فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ لُقب بهذا شعب إسرائيل قديماً (تثنية ٤: ٣٧ و١٤: ٢ ومزمور ١٠٥: ٦ وإشعياء ٤٣: ٢٠ وهوشع ١١: ١) ونُسب في الإنجيل إلى المؤمنين بمعنى أسمى من ذاك لأن الله اختارهم من العالم ليكونوا له خاصة (يوحنا ١: ١٢ ورومية ٨: ١٧ و٢كورنثوس ٦: ١٨ وغلاطية ٣: ٢٦ و٢٩ وأفسس ١: ٤ - ٦ و٢: ١٩ و١بطرس ١: ٢).

كَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ قال الله قديماً لبني إسرائيل «أنتم تكونون لي مملكة كهنة» (خروج ١٩: ٦) أي مملكة مؤلفة من كهنة. واعتبرهم كذلك وهم في حضيض جبل سيناء قبل أن يتخذ سبط لاوي نائباً عن الأمة كلها. وللكهنة حق ليس لغيرهم وهو اقترابهم من الله في العبادة. وهذه البركة حصل عليها المؤمنون بالمسيح ونُسب إليهم الإكرام الذي يختص بالملوك الممتازين على سائر الناس بالسلطة. والمسيحيون كذلك ملوك لأن لهم سلطاناً على أن يخضعوا أعداءهم الروحيين جنود الظلمة وشهواتهم. وهذا مثل قول إشعياء «أَمَّا أَنْتُمْ فَتُدْعَوْنَ كَهَنَةَ ٱلرَّبِّ، تُسَمَّوْنَ خُدَّامَ إِلٰهِنَا» (إشعياء ٦١: ٦) وقول دانيال «أَمَّا قِدِّيسُو ٱلْعَلِيِّ فَيَأْخُذُونَ ٱلْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ ٱلْمَمْلَكَةَ إِلَى ٱلأَبَدِ وَإِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (دانيال ٧: ١٨). وقيل في سفر الرؤيا بلسان المفديين «جَعَلْتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً» (يوحنا ١٧: ٢٢ رؤيا ٥: ١٠) ولعل معنى «الكهنوت الملوكي» هنا أن المؤمنين يخدمون يهوه «ملك الملوك ورب الأرباب». إن المسيح ملك وكاهن (مزمور ٢: ٦ و١١٠: ٤). واتحاد المؤمنين بالمسيح يجعلهم كهنة وملوكاً بدليل القول «ٱلَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلّٰهِ أَبِيهِ» (رؤيا ١: ٥ و٦).

أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ وهذا مما لقب الله به شعب إسرائيل في القديم (خروج ١٩: ٦). فإن الله قال لموسى «قُلْ لِكُلِّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ» (لاويين ١٩: ٢). وقال موسى لهم «إِنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ ٱخْتَارَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ ٱلَّذِينَ عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (تثنية ٧: ٦). فالأمة التي كانت للرب خاصة رفضها لعصيانها وأخذ الكنيسة المسيحية بدلاً منها (غلاطية ٣: ٢٨ و٢٩ وأفسس ٥: ٢٢ - ٢٧ وعبرانيين ١٢: ٢٢ و٢٣).

شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ وهذا على وفق قول الله لبني إسرائيل «تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ ٱلأَرْضِ» (خروج ١٩: ٥). هكذا يقول الرب «هٰكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ خَالِقُكَ يَا يَعْقُوبُ وَجَابِلُكَ يَا إِسْرَائِيلُ: لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ.. جَعَلْتُ مِصْرَ فِدْيَتَكَ كُوشَ وَسَبَا عِوَضَكَ. إِذْ صِرْتَ عَزِيزاً فِي عَيْنَيَّ مُكَرَّماً، وَأَنَا قَدْ أَحْبَبْتُكَ. أُعْطِي أُنَاساً عِوَضَكَ وَشُعُوباً عِوَضَ نَفْسِكَ» (إشعياء ٤٣: ١ - ٤). ومثل هذا كلام الرسول في الكنيسة وهو قوله «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ... ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ... ٱلَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ» (أفسس ١: ٧ - ١٤). وقوله أيضاً «لأَنَّ ٱللّٰهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلْغَضَبِ، بَلْ لاقْتِنَاءِ ٱلْخَلاَصِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١تسالونيكي ٥: ٩). وقوله «كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ: أَبُولُسُ، أَمْ أَبُلُّوسُ، أَمْ صَفَا، أَمِ ٱلْعَالَمُ، أَمِ ٱلْحَيَاةُ، أَمِ ٱلْمَوْتُ، أَمِ ٱلأَشْيَاءُ ٱلْحَاضِرَةُ، أَمِ ٱلْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ٣: ٢١ - ٢٣).

لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ أي لكي تشهد بعظمة الله وقوته وقداسته وسائر صفاته التي يعبّر الكتاب عنها باسمه كقوله «هٰذَا ٱلشَّعْبُ جَبَلْتُهُ لِنَفْسِي. يُحَدِّثُ بِتَسْبِيحِي» (إشعياء ٤٣: ٢١). ولهذا عينه دعا الله إسرائيل من مصر وصنع آيات وعجائب أمامه ليجعل اسمه مكرماً بدليل قول داود الملك «وَأَيَّةُ أُمَّةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ مِثْلُ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي سَارَ ٱللّٰهُ لِيَفْتَدِيَهُ لِنَفْسِهِ شَعْباً، وَيَجْعَلَ لَهُ ٱسْماً، وَيَعْمَلَ لَكُمُ ٱلْعَظَائِمَ وَٱلتَّخَاوِيفَ لأَرْضِكَ أَمَامَ شَعْبِكَ ٱلَّذِي ٱفْتَدَيْتَهُ لِنَفْسِكَ مِنْ مِصْرَ مِنَ ٱلشُّعُوبِ وَآلِهَتِهِمْ» (٢صموئيل ٧: ٢٣ انظر أيضاً إشعياء ٦٣: ١١ و١٢ ومزمور ١٠٨ وإرميا ١٣: ١١). وبهذا المعنى قيل في المؤمنين «لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ عِنْدَ ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ» (أفسس ٣: ١٠). فالكنيسة تخبر «بغنى نعمته» وعظمة قدرته وعمق علمه وعدم تغيّر قصده وسمو محبته فإنها عُيّنت لتخبر بذلك (أفسس ١: ٥ و١٢ و١٤ وفيلبي ١: ١١). وتأتي ذلك على الأرض (يوحنا ١٥: ٨) وفي السماء (رؤيا ٤: ٨ و١١). فالله لم يختر المؤمنين للعظمة والمجد بل اختارهم دعاة باسمه بين الأمم كما اختار إسرائيل قديماً (إشعياء ٤٣: ١٢).

مِنَ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ ٱلْعَجِيبِ أي الذين دعاهم الله الآب لأن الدعوة تنسب غالباً في الإنجيل إلى الأقنوم الأول. والذين دعاهم متنصرو اليهود والأمم الذي كتب بطرس إليهم وأكثرهم من متنصري الأمم والوسيلة التي دعاهم الله بها هي بولس ورفقاؤه. وأشار «بالظلمة» إلى ما كانوا فيه من حال الجهالة والخطيئة والشقاء. وأراد «بنوره العجيب» معرفة الإنجيل (٢كورنثوس ٤: ٦ وأفسس ٥: ٨). وهذا النور الإنجيلي عبارة عن المعرفة والقداسة والسعادة ويتضمن نور وجه الله والمدينة السماوية.

    ١٠ «ٱلَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا ٱلآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ ٱللّٰهِ. ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَمَرْحُومُونَ».

    هوشع ١: ١٠ و٢: ٢٣ ورومية ٩: ٢٥ و١٠: ١٩

ٱلَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً هذا يصدق بالأكثر على متنصري الأمم لكنه يصدق على متنصري اليهود أيضاً بدليل قوله تعالى «وَأَرْحَمُ لُورُحَامَةَ، وَأَقُولُ لِلُوعَمِّي: أَنْتَ شَعْبِي وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ إِلٰهِي» (هوشع ٢: ٢٣) ذكر بطرس هنا الفرق بين حالهم وهم مؤمنون وحالهم قبل آن آمنوا لكي يحثهم على أن يستمروا على أن يخبروا بين الأمم بفضائل الله (انظر تفسير رومية ٩: ٢٥ وأفسس ٢: ١٢ و١٣).

وجوب السلوك باستقامة وقداسة بين الأمم المحيطة ع ١١ و١٢

    ١١ «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ٱلشَّهَوَاتِ ٱلْجَسَدِيَّةِ ٱلَّتِي تُحَارِبُ ٱلنَّفْسَ».

    عبرانيين ٦: ٩ وص ٤: ١٢ ورومية ١٢: ١ ولاويين ٢٥: ٢٣ وحزقيال ٣٩: ١٢ وص ١: ١٧ وعبرانيين ١١: ١٣ وأفسس ٢: ١٩ ورومية ١٣: ١٤ وغلاطية ٥: ١٦ و٢٤ ويعقوب ٤: ١

أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ خاطب المؤمنين بهذا ليستميلهم إلى قبول نصحه.

أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ طلب منهم في ما سبق أن يسلكوا كما يليق بدعوتهم بيسوع المسيح خلافاً لسيرتهم قبل تجدّدهم. وطلب هنا أن يسلكوا حسناً ليمجدوا الله قدام العالم الشرير المضطهد. فالمؤمنون «غرباء ونزلاء» لأنهم أولاد الله وهم ساكنون بين أولاد الشرير. إن السماء وطنهم وهم ماكثون يسيراً على الأرض وكنزهم في السماء فقلوبهم كذلك. وغايتهم العظمى أن يوسعوا ملكوت الله في هذا العالم وأن يمروا في أرض الغرباء والأعداء بلا أذى لأنفسهم وأنهم يصلون إلى السماء آمنين وأن يأخذوا معهم من استطاعوا أخذه من الرفقاء (انظر تفسير فيلبي ٣: ٢٠).

أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ٱلشَّهَوَاتِ ٱلْجَسَدِيَّةِ أي عن الأعمال التي تقود تلك الشهوات إليها وقد ذُكرت في (غلاطية ٥: ١٩ - ٢١) فانظر تفسيرها. ولا يليق بالغرباء والنزلاء أن يعيشوا كأنهم في وطنهم وأن يخضعوا لشهواتهم كما يفعل أهل هذا العالم الذين نصيبهم ولذاتهم وكنوزهم هنا. فتلك الشهوات تمنعهم من التقدم إلى وطنهم السماوي وتقلل رغبتهم في لذّاته الروحية الطاهرة ولهذا قال بولس لمؤمني رومية «ٱلْبَسُوا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ ٱلشَّهَوَاتِ» (رومية ١٣: ١٤) وقال لمؤمني غلاطية «ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ» (غلاطية ٥: ٢٤). وقال لتيموثاوس «أَمَّا ٱلشَّهَوَاتُ ٱلشَّبَابِيَّةُ فَٱهْرُبْ مِنْهَا» (٢تيموثاوس ٢: ٢٢) ولهذا قال بطرس «لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ ٱلسَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ» (١بطرس ١: ١٤). وهذا يستلزم أن يمتنعوا عن كل اللذات المحظورة ويعتزلوا إفراط الرغبة في الأشياء المنظورة الوقتية الجائزة. وأفضل الطرق إلى ذلك الهرب من التجربة وطلب المعونة السماوية وشغل الأفكار بالأمور الروحية والتلذذ بالسماويات حتى لا يبقى محل في القلب للدنيويات.

ٱلَّتِي تُحَارِبُ ٱلنَّفْسَ أي تمنعها من التقدم في الروحيات وتنزع سلامها وطهارتها وتعمي الضمير والبصيرة وتفسد الذوق والتصوّر. وهذا يصدق على كل شهوة جسدية ومن شر تلك الشهوات الزنى والسكر فهما يسبيان النفس ويقيدانها كما قُيد شمشون الجبار الذي قلع عينيه الفلسطينيون وأجبروه أن يطحن لهم.

    ١٢ «وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ فِي يَوْمِ ٱلافْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ ٱلْحَسَنَةِ ٱلَّتِي يُلاَحِظُونَهَا».

    ع ١٥ وص ٣: ١٦ و٢كورنثوس ٨: ٢١ وفيلبي ٢: ١٥ وتيطس ٢: ٨ وأعمال ٢٨: ٢٢ وص ١٤: ١١ و١٦ ومتّى ٥: ١٦ و٩: ٨ ويوحنا ١٣: ٣١ وإشعياء ١٠: ٣ ولوقا ١٩: ٤٤

وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ حَسَنَةً (انظر تفسير فيلبي ١: ٢٧ و٤: ٨) ما قاله سلباً في (ع ١١) قاله إيجاباً هنا وأمرهم أن يسلكوا بين الأمم حسناً لكي يروا أعمالهم الصالحة ويمجدوا إلههم الذي في السماء. وأراد «بسيرتهم» سلوكهم اليومي الظاهر لكل مشاهد. فالحسنة هي الصالحة التي يمدحها الجميع.

لِكَيْ يَكُونُوا فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ هذا يشير إلى تهمة شاعت بين الأمم يومئذ للمسيحيين. إن الأمم لم يميزوا في أول الأمر بينهم وبين اليهود فحسبوهم فرقة منهم (أعمال ١٨: ١٥ و٢٥: ١٨ - ٢٠) وفي السنة ٦٤ ب. م وهو وقت الاضطهاد النيروني ابتدأت المملكة الرومانية تعتبر المسيحيين طائفة مستقلة. ويظهر من أقوال المؤرخين الرومانيين ولا سيما الرقيم الذي كتبه بلينوس المؤرخ إلى الأمبراطور تريجانس إن المسيحيين كانوا يُتهمون بشر الفظائع. وعلة ذلك أنهم كانوا ينفردون للعبادة الروحية وممارسة العشاء الربي وكثيراً ما اضطروا أيام الاضطهاد أن يجتمعوا في الليل سراً. وكثيراً ما حامى المسيحيون عن أنفسهم ودفعوا تلك التهم الباطلة وحمل الوثنيين حسدهم للمسيحيين وبغضهم لهم أن ينسبوا إليهم كل النوازل. قال ترتليانس المسيحي «إنه فاض نهر تيبر وطمّ وجرف ما تحت أسوار رومية وزعزعها فنسبوا ذلك إلى المسيحيين. وكانوا إذا لم يفض النيل كعادته في مصر ولم يسقِ الأرض نسبوا ذلك إليهم. وإذا حدث زلزال في المملكة أو جوع أو وبأ نسبوا ذلك إليهم وصرخوا «ألقوهم إلى الأسود».

يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ فِي يَوْمِ ٱلافْتِقَادِ يحتمل أن المراد «بيوم الافتقاد» يوم مجيء الرب للانتقام من الأمم أو يوم مجيئه ليرحمهم والقرينة تدل على أن المراد هو الثاني أي وقت سكب الله روحه القدوس عليهم مع التبشير بالإنجيل كما هو في (لوقا ١: ٦٨ و٧٨ و١٩: ٤٤ وأعمال ١٥: ١٤) فيكون قودهم إلى التوبة والإيمان بالمسيح بواسطة سيرة المسيحيين المقدسة من جملة الوسائل إلى تمجيد الله.

مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ ٱلْحَسَنَةِ الخ أفضل دفع للتهمة الرديئة حسن السيرة فأمرهم بطرس أن يظهروا بتصرفهم في ما نُسب إليهم من الشر أن لا صحة لتلك التهمة. جهل أكثر الأمم عقائد الديانة المسيحية وصفات مؤسسها وتابعيها وأبغضهم كثيرون منهم وراقبوهم بأشد الحرص ليجدوا علة شكاية عليهم فوجب على المسيحيين أن يجتهدوا كل الاجتهاد في أن يشهدوا بأعمالهم بصحة دينهم وقداسة الإله الذي يعبدونه ذاكرين قول المسيح لتلاميذه «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١٦).

وجوب الخضوع لذوي السلطة الزمنية ع ١٣ إلى ١٧

    ١٣ «فَٱخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ ٱلرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ ٱلْكُلِّ».

    رومية ١٣: ١

فَٱخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ الخضوع لذوي السلطة من جملة الوسائل التي أمر بطرس المؤمنين بممارستها لكي يدفعوا عنهم التهم الكاذبة وليخلصوا من الاضطهاد. والمراد «بالترتيب البشري» هنا ما أمر به متسلطو الأرض مما يوافق كلام الله وقيّده «بالبشري» تمييزاً له من الترتيب الإلهي. ومن الواضح أنه أراد أن يخضعوا لما لا يخالف شريعة الله (انظر تفسير أعمال ٤: ١٩).

مِنْ أَجْلِ ٱلرَّبِّ أي لكي لا يُهان اسم الرب ودينه بعصيانهم ولئلا يثور عليهم الاضطهاد. أو المعنى أن مثل هذا الخضوع يكون سارّاً للمسيح الذي قال لتلاميذه «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ» (متّى ٢٢: ٢١).

 

إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ ٱلْكُلِّ أي قيصر الذي هو أعظم من كل من رجال المملكة. وهذا يوافق قول بولس «لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ ٱلْفَائِقَةِ» (رومية ١٣: ١). ويوم كتب بولس إلى الرومانيين كان أمبراطور المملكة كلوديوس قيصر (أعمال ١٨: ٢) ولما كتب بطرس هذه الرسالة كان أمبراطورها نيرون. وعبارة الأصل هنا تفصيل لقوله «فاخضعوا لكل ترتيب بشري» وكان الذين كتب إليهم بطرس هذه الرسالة من سكان أسيا الصغرى وكانت يومئذ من أجزاء المملكة الرومانية.

    ١٤ «أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلانْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي ٱلْخَيْرِ».

    رومية ١٣: ٣ و٤

أَوْ لِلْوُلاَةِ َكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ أوجب عليهم بطرس أن يخضعوا للولاة لأنهم نواب الأمبراطور قيصر يحكمون بأمره.

لِلانْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي ٱلْخَيْرِ نسب إلى الولاة الأعمال التي أقامهم الله للمحافظة عليها وأوجب على الناس الطاعة لهم من أجلها وهي الأعمال التي كانت المملكة الرومانية تمارسها غالباً وكانت من نواميس تلك المملكة. وهذا موافق لقول بولس «فَإِنَّ ٱلْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ ٱلصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ ٱلسُّلْطَانَ؟ ٱفْعَلِ ٱلصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لأَنَّهُ خَادِمُ ٱللّٰهِ لِلصَّلاَحِ الخ» (رومية ١٣: ٣ و٤).

    ١٥ «لأَنَّ هٰكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ أَنْ تَفْعَلُوا ٱلْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ ٱلنَّاسِ ٱلأَغْبِيَاءِ».

    ص ٣: ١٧ وع ١٢

لأَنَّ هٰكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ الخ لأنه بطاعتهم للولاة يسكّنون الذين يتهمونهم بأنهم يريدون الفتنة على أرباب الحكومة وارتكاب الآثام المضرّة بالآداب وراحة البلاد. وكان الناس يتهمون المسيح بمثل هذا وبمثله اتهموا الرسل والمسيحيين الأولين وأفضل طريق إلى دفع ذلك السيرة الطاهرة والطاعة الدائمة. نسب بطرس هذه التهم إلى الناس الأغبياء الذين جهلوا حقيقة الدين المسيحي وأعمال تابعيه وشكوهم بما لم يرتكبوه من الذنوب. وهذا يشبه قول بولس لتيطس «مقدماً... كَلاَماً صَحِيحاً غَيْرَ مَلُومٍ، لِكَيْ يُخْزَى ٱلْمُضَادُّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ رَدِيءٌ يَقُولُهُ عَنْكُمْ» (تيطس ٢: ٨).

    ١٦ «كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَٱلَّذِينَ ٱلْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ ٱللّٰهِ».

    يوحنا ٨: ٣٢ ويعقوب ١: ٢٥ و١كورنثوس ٧: ٢٢ ورومية ٦: ٢٢

كَأَحْرَارٍ استثقل اليهود نير الرومانيين وادّعوا حرية سياسية لم يحصلوا عليها (يوحنا ٨: ٣٣) وكانوا أيضاً عبيداً للخطيئة (يوحنا ٨: ٣٤). والمؤمنون بالمسيح تحرروا من دينونة الناموس بالمسيح ومن عبودية الشيطان وشهوات الجسد ونير السنن اليهودية وكون الأعمال شرط الخلاص. وكانوا أحراراً بحرية أبناء الله لأنهم أطاعوا شريعته اختياراً إطاعة البنين لا إطاعة العبيد خوفاً من الانتقام فاتهمهم أعداؤهم لتصريحهم بتلك الحرية الروحية بأنهم تحرروا من الشريعة الأدبية ومن الشريعة الرومانية. وغلط بعض المسيحيين في حقيقة الحرية التي حررهم المسيح بها ولذلك أبان بطرس حقيقتها.

وَلَيْسَ كَٱلَّذِينَ ٱلْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ وهم الذين اتخذوا حريتهم بالمسيح حجة لعدم إطاعة الولاة السياسيين واتخذوا كونهم تحت النعمة لا تحت الناموس حجة على استمرارهم في الإثم (رومية ٦: ١). وادّعوا أنهم يقودهم الروح ولذلك كانوا ناموساً لأنفسهم غير خاضعين إلا لما يعلنه لهم الروح. فكل من لم يتخذوا الشريعة الأدبية قانوناً لحياتهم لأنهم غير مكلفين بها ليطيعوها يتخذون الحرية «سترة للشر» وقال الرسول فيهم أيضاً «وَاعِدِينَ إِيَّاهُمْ بِٱلْحُرِّيَّةِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ ٱلْفَسَادِ» (٢بطرس ٢: ١٩).

بَلْ كَعَبِيدِ ٱللّٰهِ أي خاضعين لكل أوامره تعالى خضوعاً اختيارياً بمسرّة تامة (انظر تفسير ١كورنثوس ٧: ٢٢ و٩: ٢١ وغلاطية ٥: ١٣).

    ١٧ «أَكْرِمُوا ٱلْجَمِيعَ. أَحِبُّوا ٱلإِخْوَةَ. خَافُوا ٱللّٰهَ. أَكْرِمُوا ٱلْمَلِكَ».

    رومية ١٢: ١٠ و١٣: ٧ وص ١: ٢٢ وأمثال ٢٤: ٢١ ومتّى ٢٢: ٢١ وع ١٣

أَكْرِمُوا ٱلْجَمِيعَ أي جميع الناس إكراماً يليق بهم باعتبار كونهم مخلوقين على صورة الله وأولاد أب واحد سماوي حسب مقامهم في العالم ونسبتهم إلى غيرهم سياسة وديناً. وهذا الإكرام يستلزم إعطاء كل ذي حق حقه فكراً وقولاً وعملاً.

أَحِبُّوا ٱلإِخْوَةَ أي أتباع المسيح الممتازين عن سائر الناس بأنهم إخوة لأن المسيح دعاهم «إخوة» (متّى ٢٣: ٨). وهم دعوا أنفسهم كذلك منذ أول أمرهم. نعم إن المسيحيين مكلفون بأن يحبوا جميع الناس لكنهم مكلفون بنوع خاص أن يحب بعضهم بعضاً المحبة الأخوية (ص ١: ٢٢).

خَافُوا ٱللّٰهَ (لوقا ١٢: ٤ و٥ انظر تفسير ص ١: ١٧) وفُسّر هذا الخوف «بالخشوع والتقوى» (عبرانيين ١٢: ٢٨) و «بتكميل القداسة» (٢كورنثوس ٧: ١ انظر أيضاً فيلبي ٢: ١٢) فاتضح من هذا أن معنى «خوف الله» هنا الاحتراس من إغاظته بناء على المحبة له وتوقيره لعظمته بالنظر إلى كونه الخالق وأبا الكل وملك الملوك. والخلاصة أن هذا الخوف عبارة عن كل ما يجب علينا لله.

أَكْرِمُوا ٱلْمَلِكَ الإكرام اللائق به بالنظر إلى مقامه وصفاته. وقد يقوم هذا الإكرام بمجرد الخضوع له أي الصبر على جوره لكونه شريراً مضطهداً. وذكر الحكيم الوصيتين الأخريين مما ذُكرت في هذه الآية بقوله «يَا ٱبْنِي، ٱخْشَ ٱلرَّبَّ وَٱلْمَلِكَ» (أمثال ٢٤: ٢١). والتعلّق بين هذه الوصايا غير ظاهر فذهب بعضهم إلى أنها أربعة تفاصيل لفعل الخير المذكور في (الآية ١٥) وذهب آخر أنها مجموع كل الواجبات السياسية والدينية لبيان أن لا اختلاف بين تلك الواجبات.

ما يجب على العبيد المؤمنين ولا سيما وجوب أن يقتدوا بالمسيح في احتمال الظلم ع ١٨ إلى ٢٥

    ١٨ «أَيُّهَا ٱلْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ ٱلْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضاً».

    أفسس ٦: ٥ ويعقوب ٣: ١٧

أَيُّهَا ٱلْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ (انظر تفسير أفسس ٦: ٥ - ٩). «الخدام» تشمل العبيد والأحرار المستأجرين ولعل بطرس دعا الفريقين خداماً لطفاً بالعبيد. وكان العبيد في عصر بطرس كثيرين جداً في بيوت أغنياء الرومانيين واليونانيين. قال بلينوس المؤرخ أنه كان لأحد معارفه الرومانيين أربعة آلاف عبد. وكانوا في شقاء عظيم لأنه لم يكن لهم بمقتضى الشريعة الرومانية شيء من الحقوق فكان للسادة أن يفعلوا بهم ما شاءوا من أن يبيعوهم ويجلدوهم ويعذبوهم ويقتلوهم بالصلب أو بإلقائهم إلى الوحوش المفترسة أو غير ذلك من طرق القتل. ولما اهتدى كثيرون من العبيد إلى الدين المسيحي اقتضت الحال أن يكون في الإنجيل كثير من النصائح لهم مما يتعلق بالواجب عليهم لسادتهم وبالواجب على السادة المؤمنين لهم. فأوجب بطرس هنا على العبيد أن يقوموا بما يجب عليهم بالأمانة كما يليق بالمسيحيين وأن يحتملوا بحلم وصبر ظلم القساة من سادتهم (انظر ١كورنثوس ٧: ١ - ٢٤ و١٢: ١٣ وغلاطية ٣: ٢٨ وأفسس ٦: ٥ - ٨ وكولوسي ٣: ١١ و٢٢ - ٢٥ و١تيموثاوس ٦: ١ و٢ وتيطس ٢: ٩ و١٠ ورسالة فليمون كلها). ولم يذكر هنا ما يجب على السادة المؤمنين ولعل علة ذلك قلتهم بين من كُتب إليهم هذه الرسالة. والمراد «بالهيبة» هنا الخضوع للسادة إكراماً للمسيح بقطع النظر عن صفاتهم أو معاملتهم فمطاليب الإنجيل تفرق كثيراً عما تحث عليه الطبيعة البشرية في مثل تلك الأحوال.

لِلْعُنَفَاءِ أي غير المترفقين.

    ١٩ «لأَنَّ هٰذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ ٱللّٰهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِٱلظُّلْمِ».

    ص ٣: ١٤ و١٧ ورومية ١٣: ٥

في هذه الآية بيان علّة أن الخضوع للسادة العنفاء مما يجب على العبيد.

لأَنَّ هٰذَا فَضْلٌ أي مستحق المدح كما جاء في (لوقا ٦: ٢٦ - ٣٥ و١٧: ٩).

إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ ٱللّٰهِ الخ إن العبد الذي يطيع السيد المترفق في ما يسهل عليه لا يستحق المدح لكن الذي يطيع السيد العنيف في ما يعسر عليه وهو مظلوم رغبة في إرضاء الله وإطاعة لأوامر الضمير هو الذي يستحق المدح. وهذه الطاعة علامة كون النعمة في قلبه وهي مما يرضي الله. فالفضل أمام الله لمن يخضع بمقتضى حكم ضميره إرضاء لله سيّده السماوي لا لعجزه عن المقاومة لسيّده. إنه لا شيء كطاعة الضمير باعتبار كونه صوت الله في النفس ليقدر الإنسان على احتمال الشقاء والتجربة ويعزيه ويجعله ثابتاً أميناً في أثناء الهوان والظلم والتهم الباطلة.

    ٢٠ «لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ ٱلْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهٰذَا فَضْلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ».

    ص ٣: ١٧

لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ أي لأنه لا مجد في ذلك. والقرينة تدل على أن اللطم كان القصاص العادي للخدام على زلات زهيدة فإن احتمل المخطئ اللطم لم يحسب المشاهدون احتماله ذلك فضلاً لأنهم يحكمون بأنه مستحق ذلك.

بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ ٱلْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ هذا يستلزم احتمال الظلم بالصبر وكل الناس يحكمون بأن صبر المتألم ظلماً ممدوح أكثر من صبر المتألم عدلاً. وكذا يميزون بين النوازل التي تحل بالبار والتي تحل بالإنسان لخطاياه. فكثيرون يمدحون أيوب على صبره وقليلون يرثون لفرعون على مصائبه.

فَهٰذَا فَضْلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ أي أن الله يسرُّ بهذا ويثيب عليه.

    ٢١ «لأَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ».

    ص ٣: ٩ أعمال ١٤: ٢٢ وص ٣: ١٨ و٤: ١ و١٣ ومتّى ١١: ٢٩ و١٦: ٢٤

في هذه الآية دليل على أن تألم البر مرضي لله من تألم المسيح فإنه مثال لتا في ذلك.

لِهٰذَا دُعِيتُمْ أي دعيتم ظلماً منذ دعاكم الله إلى الإيمان. إذاً يجب أن لا تحسبوا تألمكم غريباً (ص ٤: ١٢). وهذا على وفق قول المسيح «مَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متّى ١٠: ٣٨). وقوله «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى ١٦: ٢٤ انظر أيضاً يوحنا ١٥: ١٨ - ٢٠ و١٦: ٣٣).

فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا هذا برهان على أنهم دُعوا إلى أن يتألموا ظلماً لأن «لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلْمُعَلِّمِ» (متّى ١٠: ٢٤). وعلى أنهم دُعوا إلى أن يحتملوا كما احتمل فإنه احتمل من أجلهم لا من أجل نفسه فهذا أوجب عليهم أن يتألموا معه ومن أجله. وبغض العالم لهم من الأدلة على أنهم للمسيح (يوحنا ١٥: ١٩).

تَارِكاً لَنَا مِثَالاً (يوحنا ١٣: ١٥) والكلمة اليونانية المترجمة هنا «بمثال» تعني الرسم الذي يكتبه الكاتب لمتعلم الكتابة فيكتب مثله حرفاً.

لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ تفصيل هذا سيأتي في (ع ٢٢ - ٢٤) دعا المسيح بطرس شفهاً إلى أن يتبعه فتبعه حالاً (متّى ٤: ١٩ و٢٠) والذين كتب إليهم بطرس لا يقدرون أن يتبعوا المسيح إلا باتباع خطواته الباقية بعد صعوده الظاهرة في إنجيله.

    ٢٢ «ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ».

    إشعياء ٥٣: ٩ و٢كورنثوس ٥: ٢١

ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً ومع ذلك ظُلم. كان لبطرس ويوحنا ما لم يكن لغيرهما من التلاميذ من مشاهدة سيرة المسيح وهو على الأرض في كل الأحوال المختلفة. وشهادة بطرس للمسيح هنا كشهادة بولس له بقوله إن الله «جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (٢كورنثوس ٥: ٢١). وشهادة يوحنا بقوله «ليس فيه خطية» (١يوحنا ٣: ٥). واتخذ بطرس هنا قول النبي إشعياء بغية أن يعبر عن أفكاره «عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ» (إشعياء ٥٣: ٩). ولم تكن غايته أن يورد لنا المسيح مثالاً في الخلو من الخطيئة بل في احتماله الظلم حليماً وهو بريء. فيجب على المؤمنين أن يحترسوا من أن تقع عليهم الآلام قصاصاً على ذنوبهم كقوله «فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ الخ» (ص ٤: ١٥).

وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ فكان خالصاً من الخداع والرياء فما ادعى شيئاً غير الحق. نعم إنه حُكم عليه بالموت كخادع لكن الله برّره وأثبت دعواه بإقامته من الموت.

    ٢٣ «ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ».

    ص ٣: ٩ وإشعياء ٥٣: ٧ وعبرانيين ١٢: ٣

ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً مع علمه أنه بريء مما عيّر به (يوحنا ٨: ٤٦). فقالوا إنه «مهيج فتنة وإنه مضل» وإنه شريك لبعلزبول وإنه مجدف. وقالوا ذلك جهاراً واحتمل كل ما قالوه ساكتاً بدليل أنه كان «كَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء ٥٣: ٧).

إِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ فإنه حُكم عليه ظلماً وجُلد وصُلب ولم يطلب أن الله يجازي ظالميه أو تنبأ بغضب الله الآتي عليهم لذنوبهم. ومن أمثلة احتماله الظلم ما في (يوحنا ٧: ٢٠ و٨: ٤٠ ومتّى ١٢: ٢٤) ومنها ما في حوادث صلبه.

بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ ويترك دعواه واسمه وتبرئته في يدي الله متيقناً إنه يفعل ما يجب ويتحقق أنه وإن ظلمه رئيس اليهود ومجلس السبعين والوالي الروماني فالله لا يظلمه بل ينقذ اسمه من العار فيكرمه بما استحق من الإكرام ويأخذ الوسائل التي يرى أنها مناسبة ليظهر غيظه من الظالمين ويظهر اعتباره للحق والفضيلة (لوقا ٢٣: ٤٦). وكلام بطرس هنا موافق لقول المرنم «سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَٱتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، وَيُخْرِجُ مِثْلَ ٱلنُّورِ بِرَّكَ وَحَقَّكَ مِثْلَ ٱلظَّهِيرَةِ» (مزمور ٣٧: ٥ و٦).

    ٢٤ «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. ٱلَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ».

    ١كورنثوس ١٥: ٣ وعبرانيين ٩: ٢٨ وأعمال ٥: ٣٠ ورومية ٦: ٢ وإشعياء ٥٣: ٥ وعبرانيين ١٢: ١٣ ويعقوب ٥: ١٦

أبان الرسول في هذه الآية أن المسيح لم يتألم ليكون مجرد مثال لنا لكنه تألم ليكون ذبيحة كفارة أيضاً.

ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا إنه فضلاً عن حمله الآلام وهو بريء احتمل اختياراً القصاص على خطايا غيره فوجب على الخطأة الذين مات عنهم أن يشكروه ويحبوه. وما قيل هنا مأخوذ مما قيل في إشعياء (إشعياء ٥٣: ٤ و١١ و١٢) وهو موافق لقول رسالة العبرانيين في المسيح إنه «قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ» (عبرانيين ٩: ٢٨).

فِي جَسَدِهِ اتخذ المسيح جسداً بشرياً حتى أمكنه أن يتألم ويموت من أجل خطايا الناس التي وُضعت عليه. كانوا يقدمون في هيكل أورشليم أجساد الثيران والكباش كفارة للخطايا لكنه لم يفعل كذلك بل قدّم جسده معتبراً أنه بدل الخاطئ على وفق قول النبي «أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء ٥٣: ١٢ انظر أيضاً عبرانيين ٩: ٢٨).

عَلَى ٱلْخَشَبَةِ أي الصليب (تثنية ٢١: ٢٢). قال هذا إشارة إلى أنه مات عن الخطأة أشد الميتات ألماً وهواناً مما لم يتعرّض لها سوى العبيد.

لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ الجملة الأولى من هاتين تعليل لقوله «تألم لأجلنا». والجملة الثانية تفسير لقوله «لكي تتبعوا خطواته» (ع ٢١) فالمسيح احتمل خطايانا على الخشبة ومات لكي نموت نحن عن الخطية ونحيا للقداسة لأننا متحدون به بالإيمان (انظر رومية ٦: ٢ و٨ و١١ و٢كورثنوس ٥: ١٤ و١٥) وتفسير ذلك. والغاية من العبارة أن المسيح لم يمت لمجرد القصاص الذي وجب علينا بل ليميت فينا قوة الخطيئة وينشئ فينا حياة جديدة مقدسة أيضاً.

ٱلَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ أشار «بالجلدة» إلى كل آلام المسيح من أجلنا مع أن الجلدة ليست سوى جزء منها فجرى بهذا على سنن إشعياء بقوله «بحبره شفينا» (إشعياء ٥٣: ٥). وفي هذا ما هو من غرائب النعمة وهو أن الشفاء من مرض الخطيئة ونيل صحة البر بجلدةٍ وإن الألم الشافي ليس ألم المريض المذنب بل ألم الشافي البار.

    ٢٥ «لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَخِرَافٍ ضَالَّةٍ، لٰكِنَّكُمْ رَجَعْتُمُ ٱلآنَ إِلَى رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا».

    إشعياء ٥٣: ٦ ويوحنا ١٠: ١١ وص ٥: ٤

لأَنَّكُمْ اللام للتعليل أو بيان سبب احتياجهم إلى الشفاء والهدى وهي متعلقة بقول «شفيتم».

كُنْتُمْ كَخِرَافٍ ضَالَّةٍ هذا مأخوذ من (إشعياء ٥٣: ٦) إلا أنه قيل هنالك «كلنا كغنم ضللنا» وقيل هنا «كنتم كذلك» اقتبس الرسول في هذه الرسالة كثيراً من أقوال إشعياء ولعله تعلّم من يوحنا المعمدان تفسير هذه النبوة فإنه اقتبس منها معنىً حين أشار لتلاميذه إلى يسوع وقال «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩). واقتبس الرسول من معاني تلك النبوة في (ص ١: ١٩). ومعنى العبارة إنهم قبل إيمانهم وهم ضالون منفصلون عن الله أشبهوا الغنم العاجزة الغافلة عن الخطر المحيط بها. وأتى مثل هذا التشبيه في (عدد ٢٧: ١٧ و١ملوك ٢٢: ١٧ ومزمور ١١٩: ١٧٦ وحزقيال ٣٤: ٥ و١١ ومتّى ١٨: ١٢ و١٣ ولوقا ١٥: ٤). وهو يصدق على المتنصرين من اليهود والمتنصرين من الأمم.

رَجَعْتُمُ ٱلآنَ إِلَى رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا أي رجعتم إلى المسيح بالإيمان معتبرين إياه راعياً لنفوسكم وناظراً إياها. ودعا يسوع نفسه راعياً لشعبه في (يوحنا ١٠: ١١) ودعاه بطرس رئيس الرعاة في (ص ٥: ٤). ودعاه أسقفاً أيضاً لأنه من عمل الراعي أن يطلب الضال من الخراف ويجده (حزقيال ٣٤: ١١ و١٢ ويوحنا ٢١: ١٦ وأعمال ٢٠: ٢٨ وص ٥: ٢). وسُمي خدم الدين في الإنجيل «رعاة» لأن المسيح وكل إليهم الرعاية (يوحنا ٢١: ١٥ - ١٧). ودُعي الله «راعياً» (مزمور ٢٣).

الأصحاح الثالث

في هذا الأصحاح بيان ما يجب على المؤمنات لرجالهن من إكرامهم ومن لباسهن وتمثلهن بسارة في سلوكهن (ع ١ - ٦). وما يجب على المؤمنين لنسائهم من إكرامهن الإكرام اللائق بهن (ع ٧). وما يجب على كل الإخوة من الاتحاد والمحبة وعدم المجازاة على الشر بشر (ع ٨ - ١٤). ووجوب الاستعداد للمجاوبة أن يذكروا المسيح في ضيقاته وصبره وانتصاره متذكرين طول آناة روحه وهو يبشر العصاة الذين هلكوا بالطوفان ونجاة نوح وأهله (ع ١٨ - ٢٢).

ما يجب على المؤمنات لرجالهن ع ١ إلى ٦

    ١ «كَذٰلِكُنَّ أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ ٱلْبَعْضُ لاَ يُطِيعُونَ ٱلْكَلِمَةَ، يُرْبَحُونَ بِسِيرَةِ ٱلنِّسَاءِ بِدُونِ كَلِمَةٍ».

    ص ٢: ١٨ ع ٧ وأفسس ٥: ٢٢ و١كورنثوس ٩: ١٩

كَذٰلِكُنَّ أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ أي كما يجب على العبيد أن يسلكوا بمقتضى الإنجيل يجب على النساء الخ.

كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ الخضوع أول الواجبات المذكورة هنا وقول بطرس هنا كقول بولس في (١كورنثوس ١١: ٣ - ٩ وأفسس ٥: ٢٢ وتيطس ٢: ٥) فانظر تفسير كل ذلك. كانت أحوال النساء بين الوثنيين في عصر الرسول مما يُرثى له لأن الشريعة الرومانية أباحت للرجل سلطة على امرأته وأولاده كسلطته على عبده وبهيمته. ومن المحتمل أن المرأة المؤمنة كانت عرضة لأن تترك زوجها الظالم فنصح بولس المؤمنات أن لا يتركن أزواجهن (١كورنثوس ٧: ١٣ - ١٥). وأمرها بطرس أيضاً هنا بالخضوع في تلك الحال وأن تؤثر فيها الخضوع على الترك وأبان إحدى علل ذلك.

وَإِنْ كَانَ ٱلْبَعْضُ لاَ يُطِيعُونَ ٱلْكَلِمَةَ أي وإن كان لإحدى المؤمنات بعل وثني. وهذا لا بد من أن يحدث كثيراً في أول دخول الإنجيل بين الأمم فإن النساء تقبل الإنجيل والرجال يرفضونه فإنه فرض هنا أن الرجال الوثنيين لا يقتنعون بوعظ المبشرين وإنهم يرفضونه عند سماعهم إياه من أفواههم.

يُرْبَحُونَ بِسِيرَةِ ٱلنِّسَاءِ بِدُونِ كَلِمَةٍ أي يُربحون للإيمان بالمسيح والطاعة له بحسن سلوك نسائهم إذ يقتنعون بصحة الدين المسيحي وقوته وهم يلاحظون على توالي الأيام تأثيره في طباع النساء وأقوالهن وأعمالهن فيستدلون على أنه من الله. وهذا لا يستلزم أن الحق ليس بآلة لتجديد القلب في مثل تلك الحال (على ما في يعقوب ١: ١٨ ويوحنا ١٧: ١٧). بل يدل على أن ما عجز الحق عنه وهو ينادي به على منبر الكنيسة يستطيعه بأن يُعلن بسيرة النساء المقدسة فإنه بحسن سلوكهن وإضاءة أنوارهن يكن أفضل مبشرات ويتم حقيقة قول المرنم «ٱلرَّبُّ يُعْطِي كَلِمَةً. ٱلْمُبَشِّرَاتُ بِهَا جُنْدٌ كَثِيرٌ» (مزمور ٦٨: ١١).

    ٢ «مُلاَحِظِينَ سِيرَتَكُنَّ ٱلطَّاهِرَةَ بِخَوْفٍ».

مُلاَحِظِينَ لعل الرجال توهموا أن التبشير بالإنجيل المنادي بالحرية المسيحية ينشئ عصيان النساء في البيت كما توهم السادة أنه ينشئ عصيان العبيد لكنهم بعد أن رأوا عكس ذلك طرحوا ذلك التوهم.

سِيرَتَكُنَّ ٱلطَّاهِرَةَ بِخَوْفٍ وصف الرسول بما ذكره بالإيجاز كل سلوك المرأة المؤمنة بمقتضى الإنجيل. ثم فسر ذلك بما يأتي سلباً وإيجاباً. و «الخوف» هنا الخوف من الله لا الخوف من الأزواج.

    ٣ «وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ ٱلزِّينَةَ ٱلْخَارِجِيَّةَ مِنْ ضَفْرِ ٱلشَّعْرِ وَٱلتَّحَلِّي بِٱلذَّهَبِ وَلِبْسِ ٱلثِّيَابِ».

    ١تيموثاوس ٢: ٩ وإشعياء ٣: ١٨

ينتج من هذه الآية أن بعض مؤمنات كنائس أسيا الصغرى كن غنيات ويؤيد ذلك ما قيل في مؤمنات أفسس (١تيموثاوس ٢: ٩).

لاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ إلخ لم يقصد الرسول أن يحذرهنّ من محبة لبس الملبوسات الثمينة والزينة والتحلي بالذهب بل أن يوضح لهم إن أفضل طريق إلى جذب قلوب رجالهن إليهن وأن يتمثلوا بهن في قبول إنجيل المسيح هو أن لا يتوقعن أن يربحنهم للحق بالزيتة الخارجية بل بالفضائل القلبية. ذكر الرسول هنا ثلاثة أنواع من الزينة التي اعتادتها النساء وهي «ضفر الشعر» و «التحلي بالذهب» و «لبس الثياب الفاخرة» وهي تشغل كثيراً من الوقت وتقتضي نفقة وافرة واهتماماً زائداً وقد ذكر مؤرخو الرومانيين في ذلك العصر وفرة نفقات النساء على الملبوسات والحلي وفرط اهتمامهن بذلك فقال بلينوس «بلغت قيمة حلي إحدى السيدات وهي لاليا بولينا ما يعدل أربع مئة ألف واثنين وثلاثين ألفاً من الليرات الإنكليزية. وكان لهنّ جوار خاصة لضفر الشعر وتفتيله وتعليق اللآلئ به». فلم يرد بطرس أن تتمثل المؤمنات بهن في الترفه والزينة الخارجية بل قصد أن يبين لهنّ أن هذه الزينة ليست شيئاً بالنسبة إلى زينة أخرى اختارها الله وسرّ بها وهي ما يُبلغ بها المقصود وهي جذب قلوب الرجال إلى قبول ديانتهن. وهذا يوافق قول بولس «كَذٰلِكَ أَنَّ ٱلنِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ ٱلْحِشْمَةِ مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّلٍ، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ ٱلثَّمَنِ، بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ مُتَعَاهِدَاتٍ بِتَقْوَى ٱللّٰهِ بِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ» (١تيموثاوس ٢: ٩ و١٠ فانظر تفسير ذلك).

    ٤ «بَلْ إِنْسَانَ ٱلْقَلْبِ ٱلْخَفِيَّ فِي ٱلْعَدِيمَةِ ٱلْفَسَادِ، زِينَةَ ٱلرُّوحِ ٱلْوَدِيعِ ٱلْهَادِئِ، ٱلَّذِي هُوَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ كَثِيرُ ٱلثَّمَنِ».

بَلْ إِنْسَانَ ٱلْقَلْبِ ٱلْخَفِيَّ هذا معطوف على قوله «الزينة الخارجية» فغاية كون هذا «الإنسان» زينة لهن ربح أزواجهن لحق الإنجيل. والمقصود «بإنسان القلب الخفي» ما عبر عنه بولس «بالإنسان الباطن» (رومية ٧: ٢٢ وأفسس ٣: ١٦) و «الإنسان الداخل» (٢كورنثوس ٤: ١٦). وهو الطبيعة الجديدة التي يخلقها الروح القدس في القلب على صورة المسيح. ونُعت «بالخفي» لأنه غير محسوس كالحلي على أنواعه لكن تدل عليه نتائجه في السيرة. و «القلب» هنا هو النفس المتجددة بالروح القدس المتحلية بالانفعالات المسيحية والفضائل السماوية.

فِي ٱلْعَدِيمَةِ ٱلْفَسَادِ فهي ليست كالحلي الظاهرة التي يزول جمالها وتفنى ولكنها دائمة كالنفس المتحلية بها.

زِينَةَ ٱلرُّوحِ ٱلْوَدِيعِ ٱلْهَادِئِ هذا وصف آخر للزينة الحقيقية فضلاً عن كونها قلبية دائمة. وهي زينة التواضع والهدوء وعكسها الكبرياء وطلب التمسك بالحقوق وخشونة الطبع وإظهار الغضب. وهذا مبني على إنكار النفس والاقتداء بالمسيح الوديع المتواضع القلب (متّى ١١: ١٩ و٢١: ٥).

قُدَّامَ ٱللّٰهِ كَثِيرُ ٱلثَّمَنِ لأنه «لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ ٱلإِنْسَانُ. لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْقَلْبِ» (١صموئيل ١٦: ٧). فوصفه بطرس وصف طيب ناردين الذي دهنت به مريم الرب (يوحنا ١٢: ٣). ووصف اللؤلؤة التي شبه الرب بها ملكوت السماوات (متّى ١٣: ٤٦). وزينة المؤمنة هنا مثل صفات المرأة الفاضلة التي ذُكرت في سفر الأمثال (أمثال ص ٣١) ولا سيما قوله «العز والبهاء لباسها» (أمثال ٣١: ٢٥). وظن بعضهم أن «كثير الثمن» هو «الروح الوديع الهادئ» وظن آخر أنه «إنسان القلب الخفي» وهذا هو الأرجح. وهو صفة طبيعة المؤمنة المتجددة التي تجعل زوجها يحبها ويقتدي بها وبربها وتجعلها محبوبة كريمة إلى الله أبداً.

    ٥ «فَإِنَّهُ هٰكَذَا كَانَتْ قَدِيماً ٱلنِّسَاءُ ٱلْقِدِّيسَاتُ أَيْضاً ٱلْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى ٱللّٰهِ، يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ».

    ١تيموثاوس ٥: ٥ وص ١: ٣

في هذه الآية إثبات لما سبق وبرهان على أن الله يسر بتلك الزينة.

فَإِنَّهُ هٰكَذَا ذكر تقيّات شعب الله القديم اللواتي كانت زينتهن خضوعهن لرجالهن لكي يرغّب المؤمنات في أن يتزين تزينهن ويؤكد لهنّ أن الله كما سرّ بأولئك قديماً يسرّ باللواتي يقتدينَ بهنّ اليوم.

ٱلنِّسَاءُ ٱلْقِدِّيسَاتُ اللواتي كرّمت أسماؤهن بأن ذُكرت ومُدحت في الأسفار المقدسة فوصفهن الرسول وصف الأنبياء القدماء (لوقا ١: ٧٠ وأعمال ٣: ٢١ وأفسس ٣: ٥). لأنهنّ امتزنَ على سائر نساء شعب الله القديم.

ٱلْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى ٱللّٰهِ ّهذا وصف ثانٍ لصلاحهن ّيدل على أن قلوبهنّ كانت متوجهة إلى الله لا إلى أمور هذا العالم وإنهنّ طلبنَ المدح منه تعالى لا من البشر وإنهن اعتبرنَ إنجاز مواعيد الله لهن أفضل من كل مقتنياتهنّ على الأرض.

يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ كان خضوعهنّ زينتهنّ والمراد به القيام بواجباتهنّ البيتية. واعتبرت تلك النساء أن هذا الخضوع يرضي الله وإنه تعالى يثيبهنّ عليه فلم تشتهِ أن تتزين الزينة الخارجية الفانية التي يعتبرها العالم.

    ٦ «كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ سَيِّدَهَا. ٱلَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا، صَانِعَاتٍ خَيْراً، وَغَيْرَ خَائِفَاتٍ خَوْفاً ٱلْبَتَّةَ».

    تكوين ١٨: ١٢ ع ١٤

كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ اتخذت النساء القديسات إطاعة سارة لإبراهيم قياساً للإطاعة لرجالهنّ واتخذنها مثالاً لأنها أم الإسرائيليين وكانت تستحق أن يقتدي بها كل بناتها في ملكوت الله قديماً وحديثاً. وحصر بطرس كل صفات سارة باعتبار كونها زوجة بقوله «تطيع».

دَاعِيَةً إِيَّاهُ سَيِّدَهَا لم يُذكر في العهد القديم أنها كانت تناديه بقولها «سيدي» لكنها دعته بذلك في خطابها لنفسها (تكوين ١٨: ١٢) فاتخذ بطرس ذلك دليلاً على أنها كانت تخاطبه بذلك دائماً وأنها اعتبرته رب البيت الذي يحق له أن يسوسه وأن يخضع له كل أهله. وذُكرت سارة في الرسالة إلى العبرانيين بين اللواتي امتزنَ بحسن الإيمان (عبرانيين ١١: ١١). نعم إن تاريخ الكتاب المقدس ذكر أنها أصرّت على إجراء مشيئتها في طلبها من إبراهيم أن يطرد هاجر مرتين (تكوين ١٦: ٥ و٦ و٢١: ١٠) ولكن لا يحق لنا أن نحسب ذلك عدم خضوع منها لأنها أتت ذلك رغبة في وقاية حقوق ابنها إسحاق وفي إنجاز وعد الله في شأنه. ولا يستلزم ما قيل هنا وجوب أن تدعو كل مؤمنة زوجها بسيدها بل أن تكرمه وتعتبره الإكرام والاعتبار الذين يستلزمها ذلك الوصف.

ٱلَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا أي حق لكنّ أن تدعينَ أولادها وأن تجازينَ من الله مجازاتها. وصف بطرس النساء التقيّات قديماً بكونهن متوكلات على الله أي راجيات إنجاز وعده. وكان موضوع رجائهن الخاص إتيان المسيح الموعود به وذلك كما كان موضوع إيمان إبراهيم كان أيضاً موضوع إيمان سارة. ولم يكن كل المؤمنات في عصر الإنجيل أولاد إبراهيم وسارة بالطبيعة بل باشتراكهنّ في إيمانها. آمنت سارة بالمسيح المتوقع أن يأتي فكان عليهنّ أن يؤمنّ بالمسيح الذي قد أتى وبذلك يشتركنَ في كل البركات الروحية التي حصلت سارة عليها.

صَانِعَاتٍ خَيْراً هذه حالٌ قامت مقام الشرط والمعنى أنكن إذا ثابرتن على صنع الخير كما سبق من أمرها دمتنّ أولادها وأُثبتُنّ إثابتها.

غَيْرَ خَائِفَاتٍ خَوْفاً ٱلْبَتَّةَ من تهديدات رجالكن الوثنيين واضطهادتهم وما أشبه ذلك فتكنّ بذلك متمثلات بسارة في أنها كانت أمينة لزوجها ولله بلا التفات إلى النتائج الضارة. فالذين يصونكنّ من أن يتزعزع إيمانكنّ في أثناء التجارب الشديدة هو خوف الله على وفق قول المسيح «لاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ... بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متّى ١٠: ٢٨). ولعل بطرس خطر على باله حين كتب هذا قول الحكيم «لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفٍ بَاغِتٍ، وَلاَ مِنْ خَرَابِ ٱلأَشْرَارِ إِذَا جَاءَ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَكُونُ مُعْتَمَدَكَ، وَيَصُونُ رِجْلَكَ مِنْ أَنْ تُؤْخَذَ» (أمثال ٣: ٢٥ و٢٦).

ما يجب على الرجال للنساء ع ٧

    ٧ «كَذٰلِكُمْ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ كُونُوا سَاكِنِينَ بِحَسَبِ ٱلْفِطْنَةِ مَعَ ٱلإِنَاءِ ٱلنِّسَائِيِّ كَٱلأَضْعَفِ، مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً كَٱلْوَارِثَاتِ أَيْضاً مَعَكُمْ نِعْمَةَ ٱلْحَيَاةِ، لِكَيْ لاَ تُعَاقَ صَلَوَاتُكُمْ».

    أفسس ٥: ٢٥ وكولوسي ٣: ١٩ و١تسالونيكي ٤: ٤

كَذٰلِكُمْ أي كما أنه على النساء واجبات للرجال كذلك على الرجال واجبات لهنّ.

أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ أي المؤمنون. المرجّح أنه أراد المؤمنين الذين نساؤهم لم تزل وثنية كما أنه أراد في ما سبق (ع ١) المؤمنات اللواتي رجالهنّ لم يزالوا وثنيين.

كُونُوا سَاكِنِينَ... مَعَ ٱلإِنَاءِ ٱلنِّسَائِيِّ أي لا تطلّقوا نساءكم ولا تنفصلوا عنهنّ ولا تقسوا عليهنّ. ولعله خطر لبطرس كلام بولس في هذا الشأن وهو قوله «إِنْ كَانَ أَخٌ لَهُ ٱمْرَأَةٌ غَيْرُ مُؤْمِنَةٍ، وَهِيَ تَرْتَضِي أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فَلاَ يَتْرُكْهَا» (١كورنثوس ٧: ١٢). ومعنى «الفطنة» النباهة والتعقل والمراد أن يتأملوا في مقتضيات الأحوال بين الزوجين وأن يأتوا في تصرفهم ما يربحون به نساءهم للمسيح فيرضون الله بذلك ويخلّصون أنفسهنّ وينالون الراحة والسلام في المستقبل. ولا ريب في أنه قصد أن ينالوا الفطنة بمطالعة كلام الله والتعلّم منه ما يجب عليهم لنسائهم وأن يطلبوا إرشاد الروح القدس في الصلاة. ومراده «بالإناء النسائي» جنس الإناث من البشر. وسبق في الكتاب تشبيه الأجساد بالآنية فمنه في العهد القديم ما في (إشعياء ٢٩: ١٦ و٤٥: ٩ و٦٤: ٨ وإرميا ١٨: ٦ و١٩: ١١ و٢٢: ٢٨ وهوشع ٨: ٨) وفي العهد الجديد ما في (أعمال ٩: ١٥ ورومية ٩: ٢١ و٢٣ و٢كورنثوس ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٢: ٢١).

كَٱلأَضْعَفِ أي الإناء الأضعف بالنسبة إلى الرجل ويستلزم هذا إن كلا من النساء والرجال آنية (أي آلات) قصد الله أن يُجري بها مقاصده في هذا العالم. والفرق بينهما أن أحدهما أضعف من الثاني في الطبيعة أي أن قوة أجساد النساء أقل من قوة أجساد الرجال فهنّ أكثر منهم تعرّضاً للأمراض والآلام وأقل منهم تحملاً للتعب ومشقات الحياة. وهذا لا يستلزم أن النساء أضعف من الرجال عقولاً. وما يظهر من ضعف عقولهنّ أحياناً علّته أن ليس لهنّ ما للرجال من وسائل التعلم فإنه لما تيسرت لهنّ الوسائل في بعض البلاد ظهرت قوة عقولهنّ فلم تكن أقل من قوة عقول الرجال. وكون المرأة أضعف من الرجل جسداً يوجب على الرجال أن يعاملها باللطف والرقة اللذين يجبان على القوي الشريف للضعيف.

مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً واجبة لهنّ من الاعتبار والاهتمام والعناية ومراعاة الحقوق.

ٱلْوَارِثَاتِ أَيْضاً مَعَكُمْ نِعْمَةَ ٱلْحَيَاةِ ذكر هذا علة لأن يعطوهنّ ما يجب من الإكرام فإن الله وهب لهنّ نفساً خالدة كما وهب للرجال ولم يميّز بين الرجال والنساء في بذل مواهب الحياة الأبدية فباب الإيمان مفتوح لكل من الفريقين لكي يدخلوها ويخلصوا.

ذهب بعضهم إلى أن «الحياة» هنا هي الحياة الطبيعية وأن معنى العبارة أن الله وهب للزوجين قوة إنشاء النسل وهذا اتخذاه ميراثاً وصل إليهما من أيام آدم حسب قضاء الله في قوله تعالى «ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ ٱللّٰهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ» (تكوين ١: ٢٧ و٢٨). وهذا من المحتمل لكن نرجّح الأول.

لِكَيْ لاَ تُعَاقَ صَلَوَاتُكُمْ هذا يستلزم أنه إذا قصر المؤمنون عن القيام بما يجب عليهم للنساء ولم يراعوا حقوقهن أنبتهم ضمائرهم وما استطاعوا أن يصلّوا بما يجب من الإيمان والحرارة وحدثت خصومات في البيت وهي من المنافيات لروح الصلاة واغتاظ الله عليهم ولم يقبل صلواتهم على وفق قول المرنم «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ» (مزمور ٦٦: ١٨ انظر أيضاً متّى ٦: ١٥ و١كورنثوس ٧: ٥). ولعل معنى بطرس أنه متى انتفت مراعاة الحقوق ونشأ عن ذلك خصام في البيت امتنعت فيه الصلاة على وجه يرضي الله ولم تُنل البركة الموعود بها في قوله «إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متّى ١٨: ١٩ و٢٠). والخلاصة أنه على الرجال أن يكرموا النساء الإكرام الذي لهنّ لئلا يعرّضوا أنفسهم للضرر الجسيم الذي ينشأ من عدم استماع صلواتهم.

واجبات الإخوة عامة بعضهم لبعض من جهة الاتحاد والمحبة وعدم مجازاة الشرّ بالشرّ ع ٨ إلى ١٣

    ٨ «وَٱلنِّهَايَةُ، كُونُوا جَمِيعاً مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ بِحِسٍّ وَاحِدٍ، ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ، مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ».

    رومية ١٢: ١٦ وص ١: ٢٢ وأفسس ٤: ٢ و٣٢ وفيلبي ٢: ٦ وص ٥: ٥

وَٱلنِّهَايَةُ انتهى هنا من النصح الخاص في ما مرّ ورجع إلى النصح العام في الواجبات المدنية والمنزلية فالكلام الآتي متعلق بما سبق في (ص ٢: ١١).

كُونُوا جَمِيعاً مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ لكي يستحسن من حولكم من الأمم دينكم من سلوككم فيدينوا به. فإظهار المؤمنين بالمسيح المحبة الأخوية من أعظم وسائل ربح الناس للمسيح بدليل قوله له المجد «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي» وقوله «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي» (يوحنا ١٧: ٢١ و٢٣). وليس المراد أن يكونوا متحدين في العقائد فقط بل في الآراء والغايات والمواساة أيضاً (انظر رومية ١٢: ١٦ و١٥: ٥ و١كورنثوس ١: ١٠ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وفيلبي ٢: ٢ و٣: ١٥).

بِحِسٍّ وَاحِدٍ على وفق قول بولس «فَرَحاً مَعَ ٱلْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ ٱلْبَاكِينَ» (رومية ١٢: ١٥).

ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ (انظر تفسير ص ١: ٢٢).

مُشْفِقِينَ على البائسين والمصابين (أفسس ٤: ٣٢).

لُطَفَاءَ الأصل اليوناني يفيد أن هذا اللطف الناشئ عن التواضع أمام الله وأمام الناس. وهذا لم يعتبره الرومانيون فضيلة بل اعتقدوا أنه دناءة ولكنه في الدين المسيحي يعد من أعظم الفضائل. وهذا يشبه قول بولس «فَٱلْبَسُوا... أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ» (كولوسي ٣: ١٢).

    ٩ «غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِٱلْعَكْسِ مُبَارِكِينَ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً».

    رومية ١٢: ١٧ و١تسالونيكي ٥: ١٥ وص ٢: ٢١ و٢٣ و١كورنثوس ٤: ١٢ ولوقا ٦: ٢٨ ورومية ١٢: ١٤ وغلاطية ٣: ١٤ وعبرانيين ١٦: ١٤ و١٢: ١٧

غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ انتقل هنا من الكلام على واجبات بعض الإخوة لبعض إلى الكلام على ما يجب عليهم لأعدائهم وهذا موافق لسنة الإنجيل وهي أن «يغلب الشر بالخير» (رومية ١٢: ٢١).

أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ منع في العبارة السابقة عن الشر العملي ومنع في هذه عن الشر الكلامي.

بَلْ بِٱلْعَكْسِ مُبَارِكِينَ إن أهل العالم يلعنون من يلعنهم ولكن المسيح قال «بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ» (متّى ٥: ٤٤).

لِهٰذَا دُعِيتُمْ أي لترغبوا في نفع المؤذي الشرير فعلاً وقولاً. فإن المسيح دعاهم أن يحملوا الصليب ويتبعوه وهذه الدعوة أوجبت عليهم أن يجازوا الشر بالخير واللعنة بالبركة. وهذا تعليم إنسان عُهد أنه استل سيفه وضرب آخر انتقاماً منه على جوره وأجاب على الهزء والتهمة باللعنات (متّى ٢٦: ٥١ و٧٣ و٧٥) فأظهر شدة تغيّره بفعل الروح القدس وإرشاده.

لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً هذا بيان الطريق الذي اختاره الله إلى نيل البركة المحفوظة في السماء وهي طريق الآلام والتعييرات والاضطهادات (أعمال ١٤: ٢٢) فإنهم دُعوا لكي يحتملوا ذلك بالصبر والصلاة من أجل أعدائهم. فكأنه قال لهم أنكم ذاهبون إلى السماء لترثوا البركة من الله لمجرّد نعمته لا لاستحقاقكم إياه فأمر يسير أن تحتملوا شيئاً من تعيير الناس على الطريق. وهذا على وفق قصد الله وهي أن المتوقعين إرث الخير يفعلون الخير. والخير المراد هنا إماتة الانفعالات الطبيعية الحاملة على الانتقام قولاً وفعلاً.

    ١٠ «لأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ ٱلْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّاماً صَالِحَةً، فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ ٱلشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ أَنْ تَتَكَلَّمَا بِٱلْمَكْرِ».

    مزمور ٣٤: ١٢ الخ

في هذه الآية أسباب أُخر تحمل على إطاعة ما قيل في (ع ٩) وهي النتائج المباركة من مثل ذلك السلوك بمقتضى مواعيد الله في كتابه. واقتبس كلامه معنىً من (مزمور ٣٤: ١٣ - ١٨).

مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ ٱلْحَيَاةَ أي من رغب في الحياة ليلذ بها هو مغاير لمن يجد الحياة فارغة مكدرة. فمن أراد أن تكون حياته مملوءة بركة ويرى أياماً صالحة أن يختبرها (مزمور ٢٧: ١٣ وعبرانيين ١١: ٣).

فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ ٱلشَّرِّ الخ هذا شرط التمتع بالحياة السعيدة ومعنى العبارة صون اللسان مما يؤذي الآخرين. «والمكر» الخداع وهذا موافق لقول يعقوب (يعقوب ١: ٢٦ و٣: ١ - ١٢).

    ١١ «لِيُعْرِضْ عَنِ ٱلشَّرِّ وَيَصْنَعِ ٱلْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ ٱلسَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ».

لِيُعْرِضْ عَنِ ٱلشَّرِّ كقول الحكيم «لاَ تَسِرْ فِي طَرِيقِ ٱلأَثَمَةِ. تَنَكَّبْ عَنْهُ. لاَ تَمُرَّ بِهِ. حِدْ عَنْهُ وَٱعْبُرْ» (أمثال ٤: ١٤ و١٥).

وَيَصْنَعِ ٱلْخَيْرَ فترك الشر دون صنع الخير غير كافٍ. ومثل هذا ما في (مزمور ٣٧: ٢٧ وإشعياء ١: ١٦ و١٧ ورومية ١٢: ٩).

لِيَطْلُبِ ٱلسَّلاَمَ لأنه قلّما وُجد بلا طلب وأكثر الناس لا يحبونه ولهذا قال بولس «إِنْ كَانَ مُمْكِناً فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ ٱلنَّاسِ» (رومية ١٢: ١٨). ولعلّ طالبيه لا ينالونه إلا من عرش النعمة.

وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ إذ فرّ منه فلا يتركه يبعد عنه.

    ١٢ «لأَنَّ عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَأُذْنَيْهِ إِلَى طِلْبَتِهِمْ، وَلٰكِنَّ وَجْهَ ٱلرَّبِّ ضِدُّ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ».

لأَنَّ عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلأَبْرَارِ هذه الآية مقتبسة من (مزمور ٣٤: ١٥) وفيها ما يدل على ما في قلب الله من الرضى عن أصدقائه والغيظ على أعدائه. ومعنى العبارة أن الله يراقب الأبرار بالمحبة ويسر بهم ويعتني بأمورهم ويحفظهم ويباركهم. وهذه المراقبة تتكفل لهم بكل وقاية وبركة مع أن الناس يفترون عليهم ويسعون في إضرارهم.

وَأُذْنَيْهِ إِلَى طِلْبَتِهِمْ ليسمع صلواتهم في الضيقات. قال ذلك ليعزّيهم ويشجعهم في أوقات الاضطهاد. وإن قاتلي استفانوس سدوا آذانهم لكي لا يسمعوا شهادته ليسوع (أعمال ٧: ٥٧) لكن أذن المسيح كانت مفتوحة لتسمع طلبته من أجل قاتليه وذراعيه ممدودتان لقبوله (أعمال ٧: ٦٠).

وَلٰكِنَّ وَجْهَ ٱلرَّبِّ ضِدُّ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ لم يذكر باقي الآية في المزمور وهي قوله «لِيَقْطَعَ مِنَ ٱلأَرْضِ ذِكْرَهُمْ» (مزمور ٣٤: ١٦) لكن وجه الرب ضدهم يستلزم ذلك. وما ذكر في هذا الفصل يفيد أن حب السلام وطلبه يؤديان إلى طول العمر وهذا يصدقه اختبار الناس غالباً ولكنه لا يمنع من أن الصديقين قد يموتون في منتصف العمر ويكونون عرضة للجوع والوباء والموت كسائر الناس ولكن كون عيني الله عليهم للخير يحقق لهم أنهم لا يصيبهم شر حقيقي مهما حدث. فإن اجتهد الشيطان وأشرار الناس في إضرارهم لم يستطيعوا أن يضروا سوى أجسادهم وصيتهم وقتياً والله يوم الدين يبرّرهم ويثيبهم على كل آلامهم من أجله أمام الملائكة الأطهار وكل الخليقة الناطقة.

    ١٣ «فَمَنْ يُؤْذِيكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِٱلْخَيْرِ؟».

    أمثال ١٦: ٧

فَمَنْ يُؤْذِيكُمْ أي لا أحد يؤذيكم وهذا على حد قول بولس «إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا!» وقوله «مَنْ سَيَشْتَكِي... ومَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ... ومَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟» (رومية ٨: ٣١ و٣٣ - ٣٥). وجاء بذلك في صورة الاستفهام تقريراً للمراد. ومثل ذلك ما في (إشعياء ٥٠: ٨ و٩).

إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِٱلْخَيْرِ أي بأهل الخير ولا سيما المسيح. المخاطبون هنا هم الأبرار المذكورون في الآية السابقة وكون عيني الرب عليهم بالمحبة والعناية وأذنيه إلى طلبتهم يؤكد أن الشيطان وأشرار الناس لا يستطيعون أن يؤذوهم الأذى الحقيقي فلا يضرهم شيء إلا إذا أعرضوا عن التمثل بالخير وعدلوا إلى الشر.

وجوب الاستعداد للمجاوبة عن الرجاء المسيحي ع ١٤ إلى ١٧

    ١٤ «وَلٰكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ فَطُوبَاكُمْ. وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا».

    ص ٢: ١٩ الخ و٤: ١٥ ويعقوب ٥: ١١ وإشعياء ٨: ١٢ ع ٦

وَلٰكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ أي على فرض ذلك كما يحدث أحياناً وهو أن الله قد يسمح بأن «الأبرار المتمثلين بالخير» يُضطهدون لأنهم أتباع المسيح. والذي فرضه بطرس هنا ذكر بولس أنه الواقع بقوله «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِٱلتَّقْوَى فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (٢تيموثاوس ٣: ١٢). قال بطرس هنا «تألمتم من أجل البر» وقال في موضع آخر «متألماً بالظلم» وكلاهما بمعنى واحد.

فَطُوبَاكُمْ لأن المسيح قال «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ، لأَنَّ لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (فانظر تفسير متّى ٥: ١٠). وفسّر قوله هنا بقوله في (ص ٤: ١٣ و١٤).

وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ هذا أول نصح من أربعة للمضطهدين فنهاهم عن الخوف من تهديد أعدائهم الذين قصدوا بتهديدهم أن يصدوهم عن المسيح ويحملوهم على إنكاره فشجعهم على أن لا يخافوا من إضرارهم. وهذا مبني على قول النبي «لاَ تَخَافُوا خَوْفَهُ وَلاَ تَرْهَبُوا. قَدِّسُوا رَبَّ ٱلْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ»(إشعياء ٨: ١٢ و١٣ انظر أيضاً مزمور ٩١: ٥).

وَلاَ تَضْطَرِبُوا للخطر المحيط بكم كما اضطرب هيرودس من نبإ المجوس (متّى ٢: ٣) وكما اضطرب التلاميذ لما شاهدوا المسيح ماشياً على وجه البحر (متّى ١٤: ٢٦) وقد نهى المسيح تلاميذه عن الاضطراب حين وداعه إيّاهم (يوحنا ١٤: ١) قال يوحنا فم الذهب «إن حكمت الأمبراطورة بأن أُنفى فلتفعل لأني حيث ذهبت فالأرض للرب وملؤها. وإن أرادت أن تطرحني في البحر فلتطرح فإني أذكر يونان النبي. وإن شاءت أن تلقيني في أتون النار المتقد فلتلق فقد أُلقي فيه قبلي ثلاثة فتيان من العبرانيين. وإن ألقتني للوحوش الضارية ذكرت أن دانيال ألقي في جب الأسود. وإن حكمت علي بالرجم كنت بذلك شريك استفانوس أول الشهداء. وإن قطعت رأسي فلي أسوة بيوحنا المعمدان. وإن سلبت مالي فأنا عالم أني أتيت إلى هذا العالم بلا شيء وإني أخرج منه بلا شيء». وقوله بيان حسن لمراد بطرس الرسول هنا.

    ١٥ «بَلْ قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ ٱلرَّجَاءِ ٱلَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ».

    ص ١: ٣ وكولوسي ٤: ٦ و٢تيموثاوس ٢: ٢٥ وص ١: ١٧

في هذه الآية النصح الثاني للمضطهدين من أجل البر.

قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ فِي قُلُوبِكُمْ هذا هو الواسطة لوقايتهم من الخوف والاضطراب وهم مدعوون إلى أن يتألموا. وهذا كقول النبي (إشعياء ٨: ١٣). ومعنى «التقديس» التمجيد كمعناه في الطلبة الأولى من الصلاة الربانية. فعلى المضطهَدين أن يذكروا صفات الله المجيدة وأن يتأملوا في قدرته ومحبته وأمانته لمواعيده بدلاً من أن يفتكروا في قوة أعدائهم وما يمكنهم أن يضروهم به. فتقديس الرب في قلوبهم يطرد منها الخوف من الناس (انظر لوقا ١٢: ٤ و٥). وأمثلة انتصار خوف الله على خوف الناس ما كان من والدي موسى (عبرانيين ١١: ٢٣). وما كان من موسى نفسه (عبرانيين ١١: ٢٧). والفتيان الثلاثة الذين أنذرهم ملك بابل بالموت (دانيال ٣: ٦). والرسل حين هددهم مجلس اليهود (أعمال ٤: ١٩ و٢٠). ومثل هذا قول المسيح بفم إشعياء «جَعَلْتُ وَجْهِي كَٱلصَّوَّانِ وَعَرَفْتُ أَنِّي لاَ أَخْزَى. قَرِيبٌ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُنِي. مَنْ يُخَاصِمُنِي» (إشعياء ٥٠: ٧ و٨). والتأمل في مواعيد الرب يساعد المضطهَدين ومن تلك المواعيد ما في (مزمور ٦٢: ١ و٢ و٥ - ١٢ وفيلبي ٤: ٦) وفي ذكر ما وجده الأتقياء من المعونة كما في (مزمور ٣٤: ٩ و١٠ و١٧: ٢٢).

مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ الخ هذا النصح الثالث للمضطهَدين وهو أن يكونوا دائماً مستعدين لما ذُكر. فعبّر عن الإيمان المسيحي هنا بالرجاء لأن «ٱلإِيمَانُ هُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى» (عبرانيين ١١: ١). وقوله هنا يتضمن ستة أمور:

    الأول: إن للمؤمنين رجاء يمتازون به عن سائر الناس. إن لكل الناس آمالاً فأمل أهل العالم متعلق بالأرضيات ورجاء المؤمنين المسيحيين متعلق بالسماويات وسمى رجاءهم «رجاء الخلاص» و «رجاء الحياة الأبدية» و «رجاء مجد الله» و «رجاء البر الذي بالإيمان».

    الثاني: إن ذلك الرجاء بُني على علل كافية لا أوهام باطلة. وأساسه مواعيد كتاب الله بل الله نفسه وعمل الفداء بيسوع المسيح.

    الثالث: إن ذلك الرجاء لا يمكن كتمانه ولا يجوز لأن المسيح قال «كُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَلٰكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ١٠: ٣٢ و٣٣ ولوقا ١٢: ٨). ولو أراد المسيحي أن يكتم رجاءه في قلبه لا يسمح له الشيطان بذلك بل يهيج عليه الناس خيفة أن يهرب من خدمته فيضطر إلى الإقرار إما إلى أنه للشيطان وإما إلى أنه عليه.

    الرابع: أن يتوقع المؤمنون أن يسألهم الناس عن سبب ذلك الرجاء. والسائلون ثلاثة أنواع:

    الأول: الذين يريدون أن يعرفوه لكي يشتركوا.

    الثاني: الذين يسمعون نبأ الدين المسيحي ويرونه أمراً حديثاً غريباً فيحبون أن يعرفوا ما هو كفلاسفة أثينا (أعمال ١٧: ١٦ و٢٠).

    الثالث: الذين يبغضون المسيح ويطلبون علة شكاية على تعليمه واتباعه لكي يجروهم قدام الملوك والولاة كما أنبأ المسيح (لوقا ٢١: ١٢).

    الخامس: إنه يجب على المسيحيين أن يكونوا مستعدين لبيان حقيقة إيمانهم والمحاماة عنه في الوقت والمكان الموافقين. وهذا يستلزم أن يعرفوا مبادئ الدين المسيحي الجوهرية كما هي معلنة في الكتاب المقدس وأن يقابلوا آراءهم بها لكي يتحققوا صحتها لأن الإنسان لا يمكنه أن يجاوب غيره على ما لم يكن قد عرفه حق المعرفة. وأحسن ما يمكن من أجوبة المؤمن عن إيمانه هو ما بُني على اختباره كجواب الأعمى المؤمن الذي فتح يسوع عينيه فإنه قدم ذلك برهاناً على أن المسيح نبي إذ قال «إِنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ» (يوحنا ٩: ٢٥). وتقديم بولس برهانه على إيمانه بيسوع أنه شاهده في طريق دمشق وسمع صوته (أعمال ٢٢: ٦ - ٨). وبرهان الرسل على إيمانهم بقيامة يسوع المسيح إنهم شاهدوه بأعينهم وأنهم تكلموا معه وأكلوا معه (أعمال ١٠: ٤١).

    السادس: المجاوبة عن سبب ذلك الرجاء بوداعة وخوف. فنال «بوداعة» نهياً عن الافتخار بأن إيمانهم خير من إيمان غيرهم وعن حب الجدال والقسوة في الكلام وعن تهديد مقاوميهم بغضب الرب عليهم. ومثل تلك الوداعة ما أظهرها يسوع أمام بيلاطس (يوحنا ١٨: ٣٦ و٣٧) وبطرس ويوحنا في مجلس السبعين (أعمال ٤: ٧ - ١٢). وبولس أمام فستوس وأغريباس (أعمال ص ٢٦). والمراد «بالخوف» هنا خوف الله الذي هم شهود له فيخافون أن لا يحاموا عن الحق كما يجب نظراً لأهمية الشهادة التي يؤدونها. وهذا الخوف يحملهم على أن لا يتكلوا على حكمتهم وفصاحتهم بل على تعليم الروح القدس على وفق أمر الرب في (متّى ١٠: ١٩ و٢٠).

    ١٦ «وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ، لِكَيْ يَكُونَ ٱلَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ ٱلصَّالِحَةَ فِي ٱلْمَسِيحِ يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ».

    ع ٢١ و١تيموثاوس ١: ٥ وعبرانيين ١٣: ١٨ وص ٢: ١٢ و١٥

في هذه الآية النصح الرابع للمضطهدين من أجل البر وهم يؤدون الشهادة ليسوع.

وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ مراد الرسول هنا أنه من الصفات الضرورية للذين يشهد برجائه في المسيح هو أن يشهد له ضميره بأنه يسلك بمقتضى مطاليب الديانة التي يعترف بها على وفق ما سبق من تسميتهم «متمثلين بالخير» و «المتألمين من أجل البر» وإنهم «يقدسون الرب في قلوبهم» وفيه تصريح بوجوب أن يكون لهم قداسة القلب والسيرة وإن أقوى شهادة بصحة الدين المسيحي حسن سلوك أتباعه.

وشرط «الضمير الصالح» أن يكون مستنيراً بكلمة الله وروحه القدوس وأن يكون مرشوشاً بدم يسوع المسيح (عبرانيين ٩: ١٤) وأن يكون له حكم رئاسي على النفس.

لِكَيْ يَكُونَ ٱلَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ ٱلصَّالِحَةَ فِي ٱلْمَسِيحِ المعنى هنا كمعنى ما في (ص ٢: ١٢) فارجع إلى تفسيره. وقيّد سيرتهم بقوله «في المسيح» هنا كما فعل في (١كورنثوس ٤: ١٧ وكولوسي ٢: ٦) فإنه اعتبر أن المسيحي يحيا الحياة كلها في المسيح.

يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ الخ متى تبيّن من الواقع أن المشتكين مفترون أي كاذبون. فذلك الخزي مثل ما كان خزيهم في أفسس حين وبخ كاتب المدينة الذين شهدوا على بولس ورفقائه كذباً (أعمال ١٩: ٣٧ - ٤٠). ومثل ما كان حين قال بيلاطس لليهود «قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً» (لوقا ٢٣: ١٤ و١٥). ومثل ما كان حين شهد فستوس وأغريباس لبولس بقولهما «إِنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ لَيْسَ يَفْعَلُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أَوِ ٱلْقُيُودَ» (أعمال ٢٦: ٣١).

    ١٧ «لأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْراً، أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرّاً».

    ص ١: ٦ و٢: ١٥ و٤: ١٩ وأعمال ١٨: ٢١ وص ٢: ٢٠ و٤: ١٥

ما قيل في هذه الآية إثبات لوجوب أن يكون لهم ضمير صالح وهذا موافق لقوله سابقاً «لأَنَّ هذَا فَضْلٌ، إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ، يَحْتَمِلُ أَحْزَانًا مُتَأَلِّمًا بِالظُّلْمِ» (انظر تفسير ص ٢: ١٩ و٢٠).

لأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ حتى الموت بدليل (ع ١٨).

إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ هذا بيان أن أعداءهم لا يقدرون عليهم إلا بإرادة الله فمجرد مشيئة الله ذلك علة لاحتمال الآلام بالصبر. ومن المعلوم أن الله لا يسمح بتألم شعبه ما لم يقصد أن يكون تألمهم وسيلة إلى نيلهم «أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (٢كورنثوس ٤: ١٧).

وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْراً لنفوسكم ولنفوس غيركم وللدين المسيحي.

أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرّاً أوضح معنى هذا في (ص ٤: ١٤) وهذا حق لأنه إذا تألم المؤمن من أجل الشر فذلك عار على اسمه وعلى الدين الذي يعترف به وعلى ربه فيجلب عليه غضب الله.

إثبات ما سبق من مثال المسيح ع ١٨ إلى ٢٢

    ١٨ «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ، مُمَاتاً فِي ٱلْجَسَدِ وَلٰكِنْ مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ».

    ص ٢: ٢١ وعبرانيين ٩: ٢٦ و٢٨ و١٠: ١٠ ورومية ٥: ٢ وأفسس ٣: ١٢ وص ٤: ١ وكولوسي ١: ٢٢ وص ٤: ٦

قرر بولس في هذا الفصل أن المسيح تألم مع أنه بار وأنه بموته أبطل سلطة الموت وأنه صعد إلى المجد عن يمين الله وأورد ذلك برهاناً على أنهم «إذا تألموا من أجل البر فطوبى لهم» (ع ١٤) وعلى أنه ليس أمراً غريباً ولا حادثاً مخيفاً إن البار يتألم ظلماً.

فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً هذا فضل ما يمكنه تقديمه من أمثلة تألم البار. ولا عجب من أن ما حدث للمسيح الملك يحدث لبعض عبيده وما حدث لمن امتاز عن كل ما سواه بالقداسة حتى حقّ له أن يتفرد بلقب القدوس أن يحدث للشهداء من البشر.

تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً موت الجسد لا يكون إلا مرة للشهيد كما حدث للمسيح وهذا تعزية للمؤمن المعرّض للموت شهيداً.

مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ هذا بيان أنه لم يتألم المسيح لأنه خطئ وبيان أنه (مع كونه باراً) مات من أجل الخطأة أي مات بدلاً عنهم كفارة للخطايا كما اتضح في (رومية ٨: ٣ وغلاطية ١: ٤ وعبرانيين ١: ٦ و٨ و١٨ و٢٦ و١٣: ١١ و١يوحنا ٢: ٢ و٣: ١٠). ويتضح من هذا إن آلام المسيح كانت فضلاً عن كونها آلام بار ممتاز بالقداسة أشد من آلام الشهداء إلى غير النهاية لأنه احتمل قصاص خطأة العالم كله حين كفّر عن خطاياهم. فكم يجب على الذين استحقوا الموت على خطاياهم أن يحتملوا الموت من أجل اسم المسيح بالصبر بعد أن أزال المسيح بموته شوكة الموت. فلا عجب من أن يتألموا من أجل البر والمسيح البار مات من أجل الخطأة.

لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ (يوحنا ٣: ١٤ و١٢: ٣٢) فإذاً المؤمنون بموت المسيح موقوفون لله لكي يحيوا له ويموتوا له. والذين هم بعيدون من الله لجهلهم إياه قرّبهم المسيح إليه بتعليمه إياهم لأنه أعلن الله لهم (يوحنا ١: ١٧) «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ»(٢كورنثوس ٤: ٦). ولأنه جعل المصالحة بينه وبين الذين كانوا أعداءه بدليل قول بولس «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٩) ولأنه كفر عن الخطأة بموته «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (١كورنثوس ٥: ٢١ انظر أيضاً يوحنا ١: ٢٩ و١٤: ٦) ولأنه جعلهم مماثلين صورته ومتحدين به تعالى (أعمال ٥: ٣١). إن الله خلق نفس الإنسان لتجد الراحة والسعادة بالاتحاد به ولما انفصلت عنه بالخطيئة عجزت عن أن تجد الراحة الحق وعن أن ترجع وتجد السعادة التي خُلقت لها إلا بالمسيح بدليل قول بولس «ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا» (أفسس ٢: ١٣ و١٤ و١٧). ونتيجة هذا التعليم أنه يجب أن لا يستثقلوا أن يموتوا شهداء في سبيل الحق إذا كان موتهم شهادة للمسيح وللحق ووساطة لتقريب أعدائهم من وثنيين ويهود إلى الله بإيمانهم بالمسيح.

ِمُمَاتاً فِي ٱلْجَسَد أي باعتبار كونه إنساناً (رومية ١: ٣) فالمراد «بالجسد» هنا الطبيعة البشرية بدليل قول بولس في المسيح «ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ» (رومية ١: ٣) وقول يوحنا «الكلمة صار جسداً» (يوحنا ١: ١٤). وقول بولس «الله ظهر في الجسد» (١تيموثاوس ٣: ١٦) وقول يوحنا أيضاً «كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللّٰهِ» (١يوحنا ٤: ٢) «لأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ إِلَى ٱلْعَالَمِ مُضِلُّونَ كَثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُونَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ آتِياً فِي ٱلْجَسَدِ» (٢يوحنا ٧). ومعنى العبارة أن المسيح بالنظر إلى ناسوته أثر الموت فيه كما يؤثر في سائر الناس أي انفصلت نفسه عن جسده انفصالاً حقيقياً.

مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ أي روحه الإلهية باعتبار كونه ابن الله الأقنوم الثاني في اللاهوت. فلا يمكن أن يكون مراد بولس «بالروح» هنا نفس المسيح البشرية لأنه قال في الآية التالية «إن المسيح ذهب به في أيام نوح وبشر» ولا يمكن أن يكون مراده به الروح القدس لأنه ذهب هو عينه. وقال «محي» لا حياً لأنه جدّد حياته بالقيامة من الأموات كما جاء في هذا المعنى في ستة مواضع من العهد الجديد هنا وفي (يوحنا ٥: ٢١ ورومية ٤: ١٧ و٨: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٢٢ و٤٥). ومعنى العبارة أن المسيح باعتبار كونه إلهاً وإنساناً بعد ما انتهت حياته البشرية على الأرض دخل بقوة نفسه في حياته الروحية على أثر القيامة وهي الحياة التي يحياها الآن. فحياته الآن انتهت على الصليب هي حياته الجسدية والحياة الباقية له الآن حياة روحية جددها بقوته الإلهية. وهذا موافق لقوله «أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا ١٠: ١٧ و١٨).

    ١٩ «ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ ٱلَّتِي فِي ٱلسِّجْنِ».

    ص ٤: ٦

ٱلَّذِي فِيهِ أي في الروح الإلهي الذي به أحيا نفسه بعد قتله وهو روح ابن الله الأزلي الذي تجسّد في الوقت الذي عيّنه الله.

ذَهَبَ فَكَرَزَ في أيام نوح كما يظهر من الآية التالية. ولا معنى خاص لقوله «ذهب» فقوله «ذهب وكرز» كقوله «جاء وبشركم» (أفسس ٢: ١٧) فهو معنى قول الكتاب «فنزل الرب لينظر» (تكوين ١١: ٥ انظر أيضاً تكوين ١٨: ٢١). وقيل مثله في الإنجيل فإنه جاء فيه «إن المسيح انصرف من هناك ليعلم ويكرز» (متّى ٢١: ١) وقول المسيح لتلاميذه «لِنَذْهَبْ إِلَى ٱلْقُرَى ٱلْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ» (مرقس ١: ٣٨). ومعنى «كرز» نادى وموضوع المناداة الإنذار بالطوفان ووجوب الاستعداد له. وكانت تلك الكرازة بواسطة نوح. وكثيراً ما نسب إلى الله المناداة بواسطة بعض مخلوقاته من الملائكة والناس. وهذا موافق لقول بولس في المسيح إنه كان مع بني إسرائيل في البرية (١كورنثوس ١٠: ٤).

لِلأَرْوَاحِ ٱلَّتِي فِي ٱلسِّجْنِ المراد «بالسجن» هنا دار الموتى أو جهنم كما في (٢بطرس ٢: ٤ ويهوذا ٦ ورؤيا ٢٠: ٧). و «الأرواح» هنا هم الذين كانوا في دار الموتى حين كتب بطرس هذه الرسالة ولكنهم كانوا أحياء في أيام نوح وأبوا أن يسمعوا كرازة المسيح بفم نوح. وعبّر عنهم «بالأرواح» لأنهم كانوا أرواحاً مفارقة أجسادها يوم كتب هذه الرسالة وهذا على وفق ما في (عبرانيين ١٢: ٢٣). واتضح زمان تلك الكرازة بقوله «فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ ٱلْفُلْكُ يُبْنَى» (ع ٢٠). وإن موضعها الأرض لا جهنم وإن الكارز هو المسيح وأنه كرز بفم نوح ولذلك قال في نوح أنه كان «كارزاً للبر» (٢بطرس ٢: ٥).

ذهب بعضهم أن المقصود «بالأرواح التي في السجن» الأشرار مطلقاً باعتبار كونهم عبيد الشيطان وأسراه وأنهم مقيّدون بسلاسل الإثم وأنهم عاجزون عن أن يطلقوا أنفسهم وإن المسيح كرز لهم تارة بأنبيائه وتارة برسله وتارة بنفسه. وهذا الرأي على وفق قول إشعياء فيه «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي... لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِٱلْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ» (إشعياء ٦١: ١).

    ٢٠ «إِذْ عَصَتْ قَدِيماً، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ ٱللّٰهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ ٱلْفُلْكُ يُبْنَى، ٱلَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِٱلْمَاءِ».

    رومية ٢: ٤ وتكوين ٦: ٣ و٥ و١٣ وعبرانيين ١١: ٧ و٢بطرس ٢: ٥ وتكوين ٨: ١٨ وأعمال ٢: ١٤ وص ١ : ٩ و٢٢ و٢: ٢٥ و٤: ١٩

إِذْ عَصَتْ قَدِيماً، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ ٱللّٰهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ ٱلْفُلْكُ يُبْنَى وذلك مدة مئة وعشرين سنة وكان نوح يبني الفلك بعد ما أنذره الله بالطوفان (تكوين ٦: ٣) والأرجح أنه كان ينادي كل مدة البناء وينذر بالخطر ويحث الناس على التوبة والاستعداد لأنه كان «كارزاً للبر» وقد قيل «بِٱلإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكاً لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ ٱلْعَالَمَ» (عبرانيين ١١: ٧ و٢بطرس ٢: ٥).

ٱلَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ وهم نوح وامرأته وأبناؤه الثلاثة ونساؤهم الثلاث (تكوين ٧: ٧).

الذين ذهبوا إلى أن «الأرواح التي في السجن» هم الأشرار مطلقاً ذهبوا أيضاً إلى أن بطرس ذكر كرازة المسيح في أيام نوح مثالاً لكل كرازته للخطأة وأنه ذكر القليلين الذين آمنوا وقتئذ بكرازته (وهم ثماني أنفس فقط) ليقابل بهم الألوف الذين آمنوا به بتبشير الرسل بعد قيامته وصعوده.

بِٱلْمَاءِ أي من الغرق فيه فإن الماء كان واسطة خلاصهم لأنه حمل الفلك.

    ٢١ «ٱلَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ ٱلآنَ، أَيِ ٱلْمَعْمُودِيَّةُ. لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ ٱلْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ ٱللّٰهِ بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

    تيطس ٣: ٥ وأعمال ١٦: ٣٣ وعبرانيين ٩: ١٤ و١٠: ٢٢ وص ١: ٣

ٱلَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ ٱلآنَ كان الماء واسطة الخلاص الجسدي لقليلين في أيام نوح كذا صار الماء واسطة خلاص روحي للمؤمنين. ولم يبين الرسول أن هذا تشبيه لا يصح من كل وجه أي لا يصح من جهة مقدار الماء أو طريق استعماله أو فاعليته بل اقتصر على بيان أنه تشبيه.

أَيِ ٱلْمَعْمُودِيَّةُ فهي تخلص المؤمنين من جهنم إلى كل ما يتعلق بهذا السر إذا مورست كما يجب. فإن شرط المعمودية الحقيقية أن تقترن بالتوبة الخالصة وبالإقرار بالإيمان بيسوع المسيح ووقف النفس له وأن تُتخذ علامة تطهير القلب بالروح القدس وختم العهد بين المعتمد والله. والخلاصة أن الماء خلص نوحاً وأهل بيته بحمله الفلك الذي كانوا فيه وإن ماء المعمودية يشير إلى تطهيرنا من الخطيئة الذي يقربنا من الله وبهذا المعنى قيل إن رش دم خروف الفصح خلص الإسرائيليين لأنه كان كماء المعمودية هنا يشير إلى الذي به خلصوا.

لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ ٱلْجَسَدِ أي لا معمودية الماء الخارجية فقط لأنه لا يصدر عنها سوى تطهير جسدي زهيد بل المعمودية الروحية. قال الرسول ذلك احتراساً من أن ينسبوا إلى السر قوة على الخلاص.

بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ ٱللّٰهِ كانت عمدة الكنيسة تسأل الذين يطلبون المعمودية والدخول إلى شركة الكنيسة الأولى عن إيمانهم واختبارهم وقصدهم معاهدة الله فكانت أجوبتهم تدل على توبتهم الحقيقية عن الخطيئة وولادتهم ثانية من الروح القدس وكونهم متحدين بالمسيح بالإيمان إذا كانت تلك الأجوبة صادرة عن نيّة صادقة وإخلاص وكان ذلك إعداداً للمعمودية وعلامة استحقاقهم إياها. وذاك الضمير الصالح ليس من مؤثرات المعمودية بل من خواص الذين يستحقونها. فالقول في المعمودية الخارجية ووجوب المعمودية الروحية هنا كقول الرسول في الفرائض الموسوية «قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ ٱلضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ ٱلَّذِي يَخْدِمُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ، مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ ٱلإِصْلاَحِ... فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ» (عبرانيين ٩: ٩ و١٠ و١٤).

ولعل السؤال هنا سؤال الله لضمير المؤمن أن يأتي إليه ليعاهده على إخلاص النية أو هو الطلب الذي يطلبه المؤمن من الله للمعونة حتى يستطيع أن يقوم بما أوجبت عليه المعمودية والأولى أنه سؤال عمدة الكنيسة. وخلاصة هذه الآية إن المعمودية المطلوبة إشارة إلى معمودية الروح القدس متى كانت مقترنة بتجدد القلب (الموصوف هنا «بضمير صالح عند الله») فهي واسطة خلاص المؤمنين من الموت الروحي الأبدي كما إن الماء الذي حمل الفلك كان واسطة لخلاص نوح وأهل بيته من الموت الجسدي.

بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق «بيخلصنا» في أول الآية ومعنى الجملة أنه لولا قيامة المسيح كانت تلك المعمودية باطلة وعجزت عن الخلاص كما يتضح من (رومية ٦: ٤ و٥ و١كورنثوس ١٥: ١٣ و١٤ و٢٩). والقيامة من الأموات هي أول النتائج المجيدة من موت المسيح «البار من أجل الاثمة» (ع ١٨).

جاء تفاسير كثيرة للآيات الثلاث (أعمال ١٩ - ٢١) منها إن «الأرواح التي في السجن» هم الأشرار الذين كانوا أسرى الشيطان في سجن الإثم وإن هؤلاء هم الذين ذهب المسيح إليهم وكرز لهم بعد قيامته بواسطة رسله والمبشرين. والذي يبطل هذا التفسير إن بطرس نسب الذهاب والكرازة إلى المسيح نفسه لا إلى رسله وكون المراد بالأرواح التي في السجن كل الخطأة مما يعسر قوله على العقل. ومنها إن تلك الأرواح كانت في جهنم وإنها أرواح الذين هلكوا بالطوفان وإن المسيح نزل إلى جهنم وبشرها ويبطل هذا التفسير أنه مخالف لتعليم الكتاب إن زمن التبشير ونيل النعمة لا يكونان إلا مدة الحياة الحاضرة بدليل قوله «بعد الموت الدينونة» (عبرانيين ٩: ٢٧). ولا يمكننا أن نرى سبباً لكرازة المسيح للذين ماتوا زمن الطوفان دون غيرهم. وليس في هذا التفسير شيء يوافق غاية الرسول هنا وهو حثّ المضطهدين ظلماً على الصبر والاحتمال. وقد سند بعضهم القول بالمطهر بتلك الآيات فذهبوا إلى أن المسيح ذهب إلى المطهر لكي يخلص الذين احتملوا من العذاب ما يكفي للتطهير. ولا شيء في الكتاب يسند هذا الرأي ولو كان صحيحاً لأُثبت بآيات أُخر من آيات الكتاب ولكنه تخالفه آيات كثيرة.

    ٢٢ «ٱلَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ ٱللّٰهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ».

    مرقس ١٦: ١٩ وعبرانيين ٤: ١٤ و٦: ٢٠ ورومية ٨: ٣٨ وعبرانيين ١: ٦

ما في هذه الآية بيان لعظمة المسيح ومجده وهو نتيجة «آلام البار من أجل الأثمة» وبيان ما للمؤمن أن يتوقعه إذا اقتدى بالمسيح باحتماله الضيقات والإهانة والمقاومة من الخطأة قديماً وحديثاً.

ٱلَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ ٱللّٰهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ (انظر أعمال ١: ٩ وتفسيره) أي مضى إلى مسكن الملائكة والقديسين ومظهر مجد الله وهو نزل منها ليتألم وصعد إليها ليتمجد. وقال «في يمين الله» إيماء إلى مشاركته للآب في السلطة والمقام (انظر تفسير مرقس ١٦: ١٩).

وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ (انظر تفسير أفسس ١: ٢٠ و٢١ وكولوسي ٢: ١ - ١٥). غاية بطرس من هذا القول بيان أنه لا عجب أن يتألم المؤمنون على ذنوب لم يرتكبوها لأن المسيح البار كذا تألم. إنه مات لكي يقرب الناس إلى الله فيجب أن يسر المؤمنون إذ دُعوا ليشهدوا بصحة الدين المسيحي بالموت ويكونوا لذلك واسطة تقريب العصاة إلى الله بالإيمان والتوبة. وآلام المسيح انتهت بقيامته وصعوده وتكلله بالمجد والكرامة كذا تنتهي آلام المؤمنين الذين يتألمون ظلماً لأنهم يشاركونه في مجده بدليل قوله «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا ٣: ١٢).

الأصحاح الرابع

أوصى الرسول في هذا الأصحاح المؤمنين بأن يتسلحوا بالنية التي كانت للمسيح ويكفوا عن الخطايا الماضية والسلوك في طريق الأمم متذكرين أن الله سوف يحاسبهم (ع ١ - ٦). وذكرهم بقرب نهاية كل شيء وأوجب عليهم أن يسهروا ويصلوا وأن يحب بعضهم بعضاً ويضيف بعضهم بعضاً وأمرهم بالأمانة في كل أعمالهم من وعظ وإحسان (ع ٧ - ١١). وأن لا يستغربوا الشدائد لأنهم يكونون بذلك شركاء آلام المسيح ولكن يجب أن لا يتألموا لكونهم مذنبين (ع ١٢ - ١٦). وأبان لهم إن الأبرار بالجهد يخلصون وإن الأشرار يهلكون لا محالة فوجب أن يستودعوا أنفسهم الخالق الأمين (ع ١٧ - ١٩).

حثهم على الاقتداء بالمسيح والكف عن الخطيئة ع ١ إلى ٦

    ١ «فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِٱلْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهٰذِهِ ٱلنِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي ٱلْجَسَدِ كُفَّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ».

    ص ٢: ٢١ وأفسس ٦: ١٣ ورومية ٦: ٧

فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِٱلْجَسَدِ هذا على وفق ما قيل في (ص ٣: ١٨). ولم يرد بقوله «تألم» مجرد موته على الصليب بل كل ما احتمله من إنكار النفس والعار والآلام من أجل الاثمة وهو البار. وقال «بالجسد» إشارة إلى أنه احتمل ما ذُكر باعتبار كونه إنساناً.

تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهٰذِهِ ٱلنِّيَّةِ أي اعتمدوا كل الاعتماد أن «تتألموا بالجسد» كما تألم إذ اقتضت الحال. إن بطرس اعتبر تلك النية سلاحاً لنفوسهم في الجهاد الروحي الذي دُعوا إليه في مقاومة الشهوات الجسدية وفي احتمال الاضطهاد. وكثيراً ما ذكر بولس ما يحتاج إليه المؤمن من الأسلحة الروحية (رومية ١٣: ١٢ و٢كورنثوس ٦: ٧ وأفسس ٦: ١٠ - ١٧ و١تسالونيكي ٥: ٨).

فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي ٱلْجَسَدِ كُفَّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ هذا يصدق على المسيح وكل مسيحي. والمراد من «التألم بالجسد» الموت. ومعنى العبارة أن المؤمن اتحد بالمسيح حتى أنه مات عن الخطيئة بموت المسيح على الصليب بدليل قول بولس «نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا... عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٦: ٢ و٦ و٧). وقوله في نفسه «مع المسيح صلبت» (غلاطية ٢: ٢٠ انظر أيضاً كولوسي ٢: ٢٠ و٣: ٣ و٢تيموثاوس ٢: ١١). إن المسيح مات عن الخطيئة أي أكمل كل ما كان عليه ليكفر عن الخطايا بدليل قوله «لأَنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ» (رومية ٦: ١٠) وقول المسيح «قد أكمل» (يوحنا ١٩: ٣٠). والمؤمن مات عن الخطيئة أي اعتزلها ولم يرتكبها بعد عمداً وتحرر من سلطتها عليه كاعتزال النفس للجسد بالموت.

    ٢ «لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضاً ٱلزَّمَانَ ٱلْبَاقِيَ فِي ٱلْجَسَدِ لِشَهَوَاتِ ٱلنَّاسِ، بَلْ لإِرَادَةِ ٱللّٰهِ».

    رومية ٦: ٢ وكولوسي ٣: ٣ وص ١: ١٤

لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضاً ٱلزَّمَانَ ٱلْبَاقِيَ فِي ٱلْجَسَدِ هذا متعلق بقوله «تسلحوا بهذه النية» (ع ١). والمراد «بالزمان الباقي في الجسد» ما بقي للمؤمن من الحياة الجسدية على الأرض منذ إيمانه.

لِشَهَوَاتِ ٱلنَّاسِ أي الأمم الذين كانوا محيطين به وكان هو منهم قبلاً. ووُضعت تلك «الشهوات» في الآية التالية.

بَلْ لإِرَادَةِ ٱللّٰهِ ذكر هذه المقابلة لشهوات الناس وهو يبيّن الغاية التي على المسيحي أن يعيش لأجلها وهي إتمام مشيئة الله كما هي معلنة في كتابه. وهذا موافق لقول بولس في المسيح «وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ يْ يعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (٢كورنثوس ٥: ١٥).

    ٣ «لأَنَّ زَمَانَ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّذِي مَضَى يَكْفِينَا لِنَكُونَ قَدْ عَمِلْنَا إِرَادَةَ ٱلأُمَمِ، سَالِكِينَ فِي ٱلدَّعَارَةِ وَٱلشَّهَوَاتِ، وَإِدْمَانِ ٱلْخَمْرِ، وَٱلْبَطَرِ، وَٱلْمُنَادَمَاتِ، وَعِبَادَةِ ٱلأَوْثَانِ ٱلْمُحَرَّمَةِ».

    ١كورنثوس ١٢: ٢ ورومية ١٣: ١٣ وأفسس ٢: ٢ و٤: ١٧

لأَنَّ زَمَانَ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّذِي مَضَى قبل الإيمان.

يكفينا أي يكفيكم فإنه تكلم بالنيابة عنهم تلطفاً. ومعنى قوله «يكفي» كمعنى قول المسيح «يكفي اليوم شره» وقوله «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (متّى ٦: ٣٤ و١٠: ٢٥). وفي العبارة إيجاز بليغ والمقصود أن ما مر من المعاصي زائد جداً فوجب الكفّ عنه وعدم العود إليه أبداً. وهذا أهم غايات الرسول من هذا الأصحاح وهو حثهم على اعتزال الخطايا التي هم عرضة لارتكابها لكونهم بين الوثنيين. وما ذُكر هو العلة الأولى لأن يكفوا عن الخطيئة. وهذا لا يستلزم أنه كان قبلاً يجوز لهم ارتكاب المحظورات فإنه بيان لوجوب أن ينفصلوا منذ ذلك الوقت عن الآثام كل الانفصال.

عَمِلْنَا إِرَادَةَ ٱلأُمَمِ أي عملوا عمل الأمم طوعاً لشهواتهم أو كما شاء الأمم أن يفعل المؤمنون. وفي قوله «إرادة الأمم» بذكر الخطايا التي امتازوا بها.

سَالِكِينَ أي مستمرين. نسب ما فعله الكثيرون إلى الكل.

ٱلدَّعَارَةِ أي الفسق.

ٱلشَّهَوَاتِ المحرمة (رومية ١: ٢٤).

إِدْمَانِ ٱلْخَمْرِ أي الإفراط فيه.

ٱلْبَطَرِ (رومية ١٣: ١٣ وغلاطية ٥: ٢١).

ٱلْمُنَادَمَاتِ المجالسات لرشف المسكرات كما اعتاد الوثنيون في ولائمهم.

عِبَادَةِ ٱلأَوْثَانِ ٱلْمُحَرَّمَةِ وما يقترن بها من الأعمال القبيحة المنهي عنها بحكم العقل السليم والكتاب الإلهي (رومية ١: ٢٦ - ٣١). مما أظهر قوة الإنجيل أنه قادر على كف الذين اعتادوا تلك الآثام عنها وإرشادهم إلى الله والحياة المقدسة ومكنهم منها. وما صدق على كفاية الزمن الماضي لارتكاب آثام الوثنيين لمن كتب إليهم بطرس يصدق على كفاية كل زمن لإطاعة الشهوة والسير في سنن العالم وإرضاء الناس لأن ما بقي من الحياة يقصر عن القيام بما يريده الله.

    ٤ «ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ يَسْتَغْرِبُونَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَرْكُضُونَ مَعَهُمْ إِلَى فَيْضِ هٰذِهِ ٱلْخَلاَعَةِ عَيْنِهَا، مُجَدِّفِينَ».

    أفسس ٥: ١٣ وص ٣: ١٦

ٱلأَمْرُ أي السلوك في سنن الشهوات المحرمة الذي سلكوا فيه أولاً.

يَسْتَغْرِبُونَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَرْكُضُونَ مَعَهُمْ أي مع الوثنيين فإن الوثنيين سروا بهذه الأمور ولم يريدوا أن يتركوها ولم يقدروا أن يعرفوا لماذا تركها المؤمنون. وعبر «بالركض» عن الرغبة الشديدة في الخطايا المذكورة وكان بعض عبدة باخوس إله الخمر يركضون حقيقة في ولائمهم فإنهم كانوا يحيطون بمذبحه راكضين بالهتاف كالمجانين. فالأمم لم يسروا البتة بالدين المسيحي وما يطلبه من إنكار النفس والتوبة والقداسة وعجبوا من سرور المؤمنين بها كما تعجب فستوس من لذة بولس بالتكلم في دين المسيح فقال له «أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ» (أعمال ٢٦: ٢٤). إن الأمم لم يستطيعوا أن يروا موجبات ترك المؤمنين الإثم لأنهم لم يروا جرمه ولا خطره ولذلك حسبوا ما فعله المؤمنون جهالة.

فَيْضِ هٰذِهِ ٱلْخَلاَعَةِ عَيْنِهَا الخلاعة اتباع الشهوات حتى تتسلط وشبّه تلك الشهوات بالنهر الذي جاوز ماؤه شاطئيه.

مُجَدِّفِينَ جدف الأمم على المؤمنين بأن أخذوا يستغربون ما فعلوه ثم نسبوا إليهم الجهالة ثم خطأوهم ونسبوا إليهم مقاصد شريرة وأعمالاً رديئة سرّية ولقبوهم بألقاب قبيحة وقالوا أنهم مراؤون ومدّعون أنهم أقدس من غيرهم واتهموهم بفواحش لم يرتكبوها.

    ٥ «ٱلَّذِينَ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً لِلَّذِي هُوَ عَلَى ٱسْتِعْدَادٍ أَنْ يَدِينَ ٱلأَحْيَاءَ وَٱلأَمْوَاتَ».

    أعمال ١٠: ٤٢ و٢تيموثاوس ٤: ١ ورومية ١٤: ٩

ذكر الرسول ما في هذه الآية تعزية للمتهمين كذباً بغايات رديئة وأعمال شريرة.

ٱلَّذِينَ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً هذا الكلام على الأمم المجدفين.

لِلَّذِي هُوَ عَلَى ٱسْتِعْدَادٍ أَنْ يَدِينَ في الوقت الذي عيّنه. والديّان هو الرب يسوع المسيح. وقوله «على استعداد أن يدين» يدل على أنه لا بد من الدينونة وأنها قريبة وهذا موافق لما في (أعمال ١٩: ٤٠ و٢١: ١٣ و٢كورنثوس ١٢: ١٤ وعبرانيين ١٣: ١٧).

ٱلأَحْيَاءَ وَٱلأَمْوَاتَ الباقين على وجه الأرض والذين ذهبوا إلى القبور من مُتَّهِمِين ومُتَّهَمِين ومُضطَّهِدين ومُضطَّهَدين فإنهم جميعاً يدانون بلا محاباة بدليل قوله في المسيح «أَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمُعَيَّنُ مِنَ ٱللّٰهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ» (أعمال ١٠: ٤٢). وقول بولس لتيموثاوس «أُنَاشِدُكَ إِذاً أَمَامَ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ ٱلأَحْيَاءَ وَٱلأَمْوَاتَ» (٢تيموثاوس ٤: ١).

    ٦ «فَإِنَّهُ لأَجْلِ هٰذَا بُشِّرَ ٱلْمَوْتٰى أَيْضاً، لِكَيْ يُدَانُوا حَسَبَ ٱلنَّاسِ بِٱلْجَسَدِ، وَلٰكِنْ لِيَحْيَوْا حَسَبَ ٱللّٰهِ بِٱلرُّوحِ».

    ص ١: ١٢ و٣: ١٩

فَإِنَّهُ لأَجْلِ هٰذَا أي لدينونة الأحياء والأموات. وهذا علة ثانية لأن لا يسلكوا بعد «لشهوات الناس بل لإرادة الله» (ع ٢).

بُشِّرَ ٱلْمَوْتٰى أَيْضاً هم المذكورون في (ع ٥). وذكر أنهم «موتى» لأنهم كانوا كذلك حين كتب هذه الرسالة وبُشروا بالإنجيل يوم كانوا أحياء وآمنوا به. وأكد لهم بطرس أن إخوتهم هؤلاء هم الذين سمعوا الإنجيل وآمنوا به واعترفوا بالمسيح وقُتلوا من أجل إيمانهم لم يزالوا أحياء أمام الله.

لِكَيْ يُدَانُوا حَسَبَ ٱلنَّاسِ بِٱلْجَسَدِ. فهؤلاء وإن كانوا قد حُكم عليهم بالموت بأيدي المضطهدين وماتت أجسادهم كأجساد سائر الناس هم بذلك في منزلة يسوع المسيح الذي قتله اليهود والأمم ومنزلة استفانوس الذي رحمه اليهود ومنزلة يعقوب الرسول الذي قتله هيرودس أغريباس ومنزلة سائر الشهداء الذين «رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِٱلسَّيْفِ الخ» (عبرانيين ١١: ٣٧).

وَلٰكِنْ لِيَحْيَوْا حَسَبَ ٱللّٰهِ بِٱلرُّوحِ أي لتحيا أنفسهم في السماء حياة المجد والسعادة كقول يوحنا في رؤياه «رَأَيْتُ تَحْتَ ٱلْمَذْبَحِ نُفُوسَ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ وَمِنْ أَجْلِ ٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ... فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَاباً بِيضاً... وَسَأَلَنِي وَاحِدٌ مِنَ ٱلشُّيُوخِ: هٰؤُلاَءِ ٱلْمُتَسَرْبِلُونَ بِٱلثِّيَابِ ٱلْبِيضِ، مَنْ هُمْ وَمِنْ أَيْنَ أَتَوْا؟ فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَعْلَمُ. فَقَالَ لِي: هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا مِنَ ٱلضِّيقَةِ ٱلْعَظِيمَةِ» (رؤيا ٦: ٩ و١١ و٧: ١٣ و١٤). ونيلهم تلك السعادة الغاية العظمى من تبشيرهم بالإنجيل. إن المسيحيين الأولين انتظروا مجيء يسوع المسيح سريعاً وخافوا أن إخوتهم الذين ماتوا قبل مجيء المسيح يحرمون بعض الفوائد التي يتمتع بها إخوتهم الأحياء في مجيئه كما يتضح من (١تسالونيكي ٤: ١٣ - ١٨). وكما أن بولس اجتهد في أن يقنع أهل تسالونيكي إن الموتى والأحياء منهم يشتركون على السواء في فوائد مجيء المسيح هكذا اجتهد بطرس في تأكيد ذلك للذين كتب إليهم. والخلاصة أن التبشير الذي ذُكر هنا هو الدعوة إلى التوبة والإيمان لخلاص نفوس السامعين. والمبشرون هم المسيح والذين أرسلهم. ومكان التبشير هذه الأرض.

ومن تفاسير هذه الآية قول بعضهم إن الموتى المذكورين هنا هم الأشرار الذين ماتوا بالذنوب والخطايا وأشار إليهم المسيح بقوله «دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ» (متّ ٨: ٢٢). وإنهم بُشروا بالإنجيل لكي يموتوا للخطيئة ويحيوا على الأرض حياة روحية جديدة لله. والذي ينفي هذا إن الموتى الذين في الآية الخامسة موتى حقيقة وما بعدها تفسير لها. وهو لا يوافق القرينة ولا غاية الرسول من كلامه هنا. ومن تلك التفاسير إن الموتى هنا هم الذين ماتوا روحاً وجسداً موتاً حقيقياً وذهبت أرواحهم إلى جهنم وإن المسيح بعد موته وقبل قيامته ذهب إليهم وبشرهم وخصّوا بالتبشير الذين ماتوا غرقاً أيام نوح بالطوفان وليس من سند كافٍ لهذا التفسير.

قرب نهاية كل شيء ووجوب الصحو والصلاة وممارسة الفضائل المسيحية للجميع ع ٧ إلى ١١

    ٧ «وَإِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ، فَتَعَقَّلُوا وَٱصْحُوا لِلصَّلَوَاتِ».

    رومية ١٣: ١١ ويعقوب ٥: ٨ وعبرانيين ٩: ٢٦ و١يوحنا ٢: ١٨ وص ١: ١٣

إِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ هذا موافق لقوله «على استعداد أن يدين» (ع ٥) وقول المسيح في (متّى ٤: ١٧). وما قاله بطرس نفسه (٢بطرس ٣: ٤ - ١٠) فلم يشر بذلك إلى خراب أورشليم أو إلى موت بعض أفراد الناس بل إلى مجيء المسيح ثانية وما يتعلق به وقد أخبره الرب نفسه أنه لا يقدر أحد أن يعرف زمان مجيئه (لوقا ١٢: ٤١ - ٤٦) ولذلك كان عليه أن ينتظره دائماً كما قصد المسيح.

فَتَعَقَّلُوا أي لتكن شهواتكم وأهواؤكم خاضعة لعقولكم وضمائركم (انظر تفسير ١تيموثاوس ٣: ٢).

وَٱصْحُوا أي انتبهوا لئلا تسقطوا في الخطيئة لما هو محيط بكم من التجارب. فالعبارة كقول المسيح «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (متّى ٢٦: ٤١).

لِلصَّلَوَاتِ الانفرادية والجمهورية. وغاية تلك الصلوات نيل القوة على احتمال التجارب والمعونة في الضيق. فالاقتراب إلى الله بالصلاة نافع للمؤمن لتأثيرها في قلبه ولكونها واسطة الحصول على المساعدة العلوية. وقوله «اصحوا للصلوات» يستلزم أنه يجب عليهم أن يغتنموا كل فرصة للاقتراب من عرش النعمة ويجعلوا كل حادثة من حوادث الدهر موضوع طلبة. والقرينة تدل أن قرب مجيء المسيح يوجب عليهم أن يتوقعوه وأن يسهروا ويصلوا كثيراً لأن يوم مجيئه يقترب يوماً فيوماً ولا يعلم أحد متى يأتي. وقد قال المسيح إن مجيئه يكون كمجيء لص في الليل والعالم غير مستعد له (متّى ٣٤: ٣٧ - ٤٣ ولوقا ٢١: ٣٤ و٣٥ و١تسالونيكي ٥: ٢) فكان عليهم أن يتعقلوا ويصحوا لكي يقتدروا في الصلاة لأن من يصحو للصلاة يكون غنياً في النعمة.

    ٨ «وَلٰكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً، لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا».

    ص ١: ٢٢ وأمثال ١٠: ١٢ ويعقوب ٥: ٢٠ و١كورنثوس ١٣: ٤

قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أي ما يأتي أهم ما يُطلب منكم. وكان كذلك إما لأحوالهم الخاصة وإما لأمر المسيح وكون المحبة تكميل الناموس (رومية ١٣: ١٠ و١كورنثوس ١٣: ٤ و١٣).

لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً هذا يدل على أن لهم شيئاً من الحب لكن الرسول رغب في أن يزداد كثيراً وأن يظهر أكمل ظهور بالقول والعمل. وقد أوصى الرسول قبل هذا بالمحبة الأخوية (ص ١: ٢٢).

لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا هذا مقتبس من (أمثال ١٠: ١٢) إلا أنه جاء في سفر الأمثال «تستر كل الذنوب». ولعل ما ذكره بطرس هو الذي تداولته الألسنة لأن يعقوب اقتبسه كذلك (يعقوب ٥: ٢٠) وما يستر الكل يستر الكثير بالضرورة فلا مناقضة. ومعنى «ستر الخطايا» غفرانها كما يظهر من (مزمور ٣٢: ١ و٨٥: ٢). وكما إن محبة الوالد لأولاده تحمله على ستر زلاتهم كذلك محبة بعض الإخوة لبعض تحمل الواحد على عذر الآخر بدلاً من أن يراقبها ويسرّ بكشفها لغيره فإن مثل هذا ينشئ الخصومات في الكنيسة ولكن الستر ينشئ الوفاق. ومعنى العبارة أن المحب يستر ذنوب المحبوب عن الناس بسكوته عنها أو باعتذاره عنه ويسترها عن الله برده الضال عن ضلاله وإرشاده إلى المسيح ليرجع إليه بالتوبة والإيمان. ولعل ما قصده بطرس هنا سترها عن الناس وما قصده يعقوب (يعقوب ٥: ٢٠) هو سترها عن الله.

    ٩ «كُونُوا مُضِيفِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِلاَ دَمْدَمَةٍ».

    ١تيموثاوس ٣: ٢ وعبرانيين ١٣: ٢ وفيلبي ٢: ١٤

كُونُوا مُضِيفِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ما أوجب هذا على المسيحيين الأولين ذُكر في تفسير (رومية ١٢: ١٣ انظر ١تيموثاوس ٣: ٢ و٥: ١٠ وتيطس ١: ٨ وعبرانيين ١٣: ٢ و٣يوحنا ٥ - ٨).

بِلاَ دَمْدَمَةٍ أي بلا تذمر لما تكلفونه من عناء ونفقة وتعطيل وقت وكثير من واجبات الضيافة كإظهار البشاشة والترحيب.

    ١٠ «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضاً، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ».

    رومية ١٢: ٦ و١كورنثوس ٤: ٧

بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً المراد «بالموهبة» هنا ما منحه الله الإنسان من الوسائل التي يستطيع أن ينفع غيره بها في الروحيات والجسديات. والمواهب الروحية التي أنعم الله بها على المسيحيين الأولين ذُكرت في (١كورنثوس ١٢: ١ - ١٠). ذكرهم بأنهم أخذوها ولم يقتنوها باجتهادهم فلزم من ذلك وجوب أن لا يستعملوها لمجرد نفع أنفسهم. وقوله «بحسب ما أخذ» يدل على تنوع المواهب.

يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضاً هذا يقرب معنى ولفظاً مما قاله بولس في (رومية ١٢: ٦ - ٨ فارجع إلى تفسيره). ويلزم من هذا أن يقوموا بما توجبه عليهم تلك المواهب على أنواعها جسدية أو روحية لمن يحتاجون إليها (٢كورنثوس ٣: ٣ و٨: ١٩ و٢٠).

كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ وجب أن يعتبروا أنفسهم وكلاء الله في نفع غيرهم وإن الله أعطاهم مواهب ووزنات ونعمة ومعرفة ومالاً لتلك الغاية الخيرية لا لنفعهم ولذّتهم ومجدهم (انظر تفسير ١كورنثوس ٤: ١ و٢ ولوقا ١٦: ١ و٢ و٨). ونعت الوكلاء «بالصالحين» بياناً أنهم يستعملون مواهبهم في طريق يرضاها الله والناس ولعل بطرس خطر على باله وهو يكتب هذا الكلام مثَل العشر الوزنات (متّى ٢٥: ١٤ - ٣٠) ومثَل وكيل الظلم (لوقا ١٦: ١ - ١٣). وما يأتي في الآية التالية بيان ما قصده بالموهبة وطريق استعمالها.

    ١١ «إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ ٱللّٰهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللّٰهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ».

    ١تسالونيكي ٢: ٤ وتيطس ٢: ١ و١٥ وعبرانيين ١٣: ٧ وأعمال ٧: ٣٨ وأفسس ٦: ١٠ وص ١: ١٩ و١كورنثوس ١٠: ٣١ وص ٢: ١٢ ورؤيا ١: ٦ و٥: ١٣ وص ٥: ١١ ورومية ١١: ٣٦

إِنْ كَانَ يَتَكَلَّم أَحَدٌ أي يبشر بالإنجيل أو يعظ.

فَكَأَقْوَالِ ٱللّٰهِ أي لا يجوز له أن يتكلم بآرائه لكي يظهر علمه وفصاحته بل يجب عليه أن يتكلم بما أعلنه الله له بالوحي أو بالكتاب. وأكثر الإشارة «بالأقوال» إلى كلام العهد القديم إذ لم يكن نُشر في عصر بطرس من كلام الإنجيل إلا قليل (أعمال ٧: ٣٨ ورومية ٣: ٢ وعبرانيين ٥: ١٢) والخلاصة أنه يجب أن يحسب الله المتكلم وأنه هو آلة أو صوت (يوحنا ١: ٢٣).

وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ أي يفرّق الإحسان على المحتاجين. فلم يشر بذلك إلى قيام الشماس بما يجب عليه بل إلى ما هو على كل المؤمنين من خدمة الغرباء والمرضى والمساكين والمسجونين.

فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ أي يجب أن يعطي بتواضع حاسباً أن الله أعطاه ماله لكي ينفع غيره وأنهم يوزعون من خزائنه تعالى كما وزع يوسف من خزائن فرعون (تكوين ٤٧: ٢٣ - ٢٦).

لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللّٰهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ إن المحسنين الحقيقيين لا يأخذون الإكرام لأنفسهم لسخائهم بل يعترفون بأنهم ليسوا سوى وكلاء نعمة الله ويتحقق المحسن إليهم أنه لولا المسيح ما أحسنوا إليهم. ويتحقق الجميع إن المواهب التي اعتادتها الكنيسة إنما بلغتها بواسطة المسيح لأجل مجد الله. وأشار بقوله «كل شيء» إلى المواهب الجسدية والروحية.

ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ المرجح إن هذا تسبيح لله اعتاده المسيحيون الأولون في مجتمعاتهم الروحية ويؤيد ذلك استعمال يوحنا الرسول إياه (رؤيا ١: ٦). ونسب بطرس هذا التسبيح إلى المسيح وأتى به هنا لإثبات أنه يجب أن يكرم الله بواسطة تلك المواهب لأنه يحق له هذا الإكرام في الكنيسة على الأرض وبين المتمجدين في السماء.

آمِينَ ليس هذا دليلاً على ختام الكلام بل إثبات لما سبق واشترك بطرس فيه كأنه قال «ليكن ذلك».

حث على الشجاعة والصبر في أيام الاضطهاد ع ١٢ إلى ١٩

    ١٢ «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لاَ تَسْتَغْرِبُوا ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ ٱمْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ».

    ص ٢: ١١ وص ١: ٦

تكلم بطرس قبلاً على احتمال الاضطهادات بالصبر باعتبار أنها صادرة من الناس (ص ٣: ١٣ - ١٧) وتكلم عليها هنا باعتبار كونها علامات المشاركة للمسيح وتمهيداً لتمجدهم معه. وأبان وجوب الاحتراس من أنها تأتي عليهم تأديباً لهم على ذنوبهم ووجوب أن لا تكون إلا من أجل اسم المسيح وإن تلك المصائب جزء من الدينونة الآتية على العالم التي بداءتها من بيت الله.

أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ (ص ٢: ١١) ناداهم بهذا إيماء إلى أن ما يتكلم به ناتج عن خالص حبه لهم وشفقته عليهم.

لاَ تَسْتَغْرِبُوا أي لا تحسبوا ما سيقع عليكم من الأرزاء أمراً مخالفاً لما توقعتموه حين آمنتم بالمسيح أو لما أصاب غيركم من المؤمنين.

ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ عنى بهذا شدة الاضطهاد لكنائس أسيا. ووصفها «بالمحرقة» إشارة إلى شدة الألم كأنه ألم ناشئ عن لذع النار للجسد وإلى قصد الله امتحانهم بها كما تُمتحن المعادن بنار البوطة الممحصة على وفق قول المرنم «جَرَّبْتَنَا يَا اَللّٰهُ. مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ ٱلْفِضَّةِ» (مزمور ٦٦: ١٠ انظر أيضاً ص ١: ٧ ورؤيا ٣: ١٨).

لأَجْلِ ٱمْتِحَانِكُمْ أي لهذا سمح الله بوقوع البلوى.

كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ هذا متعلق بقوله «لاَ تَسْتَغْرِبُوا» لأن البلوى لم تقع اتفاقاً وليست مخالفة لما وعد الله به تابعيه من الحماية وليست فوق المعتاد لأن المسيح قال «لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ ٱضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ» (يوحنا ١٥: ٢٠). «فِي ٱلْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يوحنا ١٦: ٣٣). وقال بولس لمؤمني تسالونيكي «لاَ يَتَزَعْزَعَ أَحَدٌ فِي هٰذِهِ ٱلضِّيقَاتِ. فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا مَوْضُوعُونَ لِهٰذَا» (١تسالونيكي ٣: ٣ انظر متّى ١٦: ٢٤ ومرقس ٨: ٣٤ ولوقا ٩: ٢٣ وأعمال ١٤: ٢٢ و٢تيموثاوس ٣: ١٢).

   ١٣ «بَلْ كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ».

    فيلبي ٣: ١٠ و٢كورنثوس ١: ٥ و٤: ١٠ ورومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ وص ١: ٧ و٥: ١

كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا مشاركتهم المسيح في الآلام هي أنهم تألموا للغاية التي لها تألم المسيح وهي إثبات الحق والبر ومجد الله ونفع الناس. واضطُهدوا لكونهم متمثلين بالمسيح وتابعين إياه والمسيح أظهر أنه اعتبر ضيقات تلاميذه ضيقاته بقوله لشاول المضطهد لشعبه «شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي» (أعمال ٩: ٤ انظر أيضاً متّى ٥: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤ وعبرانيين ١٣: ١٢ و١٣). وتفسير قول بولس في شركة آلام المسيح في تفسير (فيلبي ٣: ١٠ فارجع إليه). وقال «افرحوا» بالنظر إلى السماء بالمسيح ومواعيده لهم.

لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً أي عند مجيئه الثاني (متّى ٢٣: ٣٠).

مُبْتَهِجِينَ إن الفرح الذي أمر به في أول الآية جزئي وممزوج بالحزن لأنه جزء من الامتحان وأما الفرح المذكور ثانية فهو يكون عند نهايته ويكون كاملاً في حضرة الرب حين يثيبهم على كل ما فعلوه واحتملوه من أجل اسمه.

    ١٤ «إِنْ عُيِّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ ٱلْمَجْدِ وَٱللّٰهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ. أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ».

    يوحنا ١٥: ٢١ وع ١٦ وعبرانيين ١١: ٢٦ ومتّى ٥: ١١ ولوقا ٦: ٢٢ وأعمال ٥: ٤١ و٢كورنثوس ٤: ١٠ و١٦

إِنْ عُيِّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلْمَسِيحِ أي من أجل المسيح لكونكم له على حد قول المسيح «مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِٱسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ الخ» (مرقس ٩: ٤١).

فَطُوبَى لَكُمْ (انظر تفسير متّى ٥: ١٢). وعلّة كون الطوبى لهم إنهم أشبهوا المسيح بالنظر إلى احتمال العار فإنهم باحتماله أظهروا محبتهم له وشهدوا بصحة دعواه ولأنه تقترن بركات روحية عظيمة بهذه الضيقات الآن ومجازاة سماوية أخيراً.

لأَنَّ رُوحَ ٱلْمَجْدِ وَٱللّٰهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ هذا «الروح» هو الروح القدس وُصف بصفتين والمعنى أنه الروح المجيد وأنه إله. وسمي أيضاً «روح الحق» (يوحنا ١٤: ١٧). و «روح القداسة» (رومية ١: ٤) و «روح النعمة» (عبرانيين ١٠: ٢٩)، ووعد المؤمنون بحلول «روح المجد والله» عليهم جزاء على ما أصابهم من تعيير الناس وتأثيره. ومعنى حلوله عليهم بقاؤه معهم ومنح إياهم الراحة والاطمئنان لتقويتهم وتعزيتهم كما وُعد المسيح بقول النبي «يَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، رُوحُ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْفَهْمِ، رُوحُ ٱلْمَشُورَةِ وَٱلْقُوَّةِ، رُوحُ ٱلْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ ٱلرَّبِّ» (إشعياء ١١: ٢). وكما قيل في شيوخ إسرائيل (عدد ١١: ٢٥ و٢٦) والله نفسه يمكث مع الذين يحل الروح عليهم لأنه روح الله فالراحة حيث كان. ولعل بطرس ذكر حين قال هذا السحابة المنيرة التي كانت تظهر في قدس الأقداس في الخيمة والهيكل وكانت لإسرائيل علامة حضور الله وحمايته لهم.

أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ أي من جهة المضطَّهِدين.

فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ أي على الروح القدس الذي يحل على المؤمنين ويُعلن نفسه بهم. نسب بلينوس في ما كتبه إلى تريجانس الأمبراطور إلى المسيحيين العناد لأنهم أبوا أن يعبدوا الأوثان وقال إنهم مستحقون القصاص على ذلك. ونسب إليهم مرقس أوريليوس الأمبراطور الجهل بأنهم فضلوا أن يموتوا على أن يذبحوا للأوثان. وبإهانتهم للمسيحيين أهانوا الروح الذي حل عليهم.

وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ بإكرامكم إياه بكلامكم وصبركم في الضيقات وطهارة سيرتكم.

    ١٥ «فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ».

    ص ٢: ١٩ و٣: ١٧ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ١١ و١تيموثاوس ٥: ١٣

فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ حذّرهم من أن يعرّضوا أنفسهم لبغض الحكام وللموت بارتكاب الذنوب وأن يتركوا سبيلاً لسوء الظن فيهم فيضطهدوهم. قال بعض المؤرخين الأولين أنه في بدء المناداة بالإنجيل اعترف بعض المجرمين المشهورين بالإيمان المسيحي وعرّضوا أنفسهم للموت شهادة بصحة دينهم لظنهم أنهم إذا ماتوا شهداء كفّر ذلك كل خطاياهم وتحققوا سعادتهم الأبدية.

مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ (انظر تفسير فيلبي ٢: ٤ و٢تسالونيكي ٣: ١١ و١تيموثاوس ٥: ١٣). ولعله أشار بهذا إلى من يغضب الوثنيين بضحكه على عبادتهم الجهلية أو بانتقاده أعمالهم وقدحه فيهم على ذنوبهم أو بفرط غيرته بغية أن يغيروا عقائدهم فيعرّض بذلك نفسه لبغضهم وانتقامهم.

    ١٦ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ مِنْ هٰذَا ٱلْقَبِيلِ».

    أعمال ٥: ٤١ و٢٨: ٢٢ ويعقوب ٢: ٧

وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ أي إن تألم لكونه مسيحياً ولاعترافه بدين المسيح. استعمل بطرس اللقب الذي كان الوثنيون يلقبون به المؤمنين بالمسيح تعييراً لهم. ولم يُذكر هذا اللقب في العهد الجديد إلا في موضعين غير هذا (أعمال ١١: ٢٦ و٢٦: ٢٨). وكانوا يدعون بعضهم بعضاً «إخوة» و «تلاميذ وقديسين» و «الذين من هذا الطريق».

فَلاَ يَخْجَلْ كما يخجل لو لُقِّب بقاتل أو سارق أو بما شاكل ذلك وإن كان قصد الأعداء «بالمسيحي» أشد التعيير. وبالأولى يجب أن لا يخجلوا من الاعتراف باسم المسيح أو الموت من أجله.

يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ الخ لأجل ذلك التعيير لأنه يجب عليه أن يحسبه شرفاً كما حسبه الرسل (أعمال ٥: ٤١ انظر أيضاً فيلبي ٣: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤).

    ١٧ «لأَنَّهُ ٱلْوَقْتُ لابْتِدَاءِ ٱلْقَضَاءِ مِنْ بَيْتِ ٱللّٰهِ. فَإِنْ كَانَ أَوَّلاً مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ ٱللّٰهِ؟».

    إرميا ٢٥: ٢٩ وحزقيال ٩: ٦ وعاموس ٣: ٢ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وعبرانيين ٣: ٦ وص ٢: ٥ رومية ٢: ٩ و٢تسالونيكي ١: ٨ ورومية ١: ١ ومتّى ٢٤: ٢٤

لأَنَّهُ ٱلْوَقْتُ لابْتِدَاءِ ٱلْقَضَاءِ أشار بهذا إلى أن ما وقع عليهم من الاضطهاد بداءة الامتحان الذي قُضي به على كل الناس في يوم الدين العظيم الذي غايته تمييز القمح عن الزوان وفصل كل عن الآخر (متّى ٣: ١٢) والخراف عن الجداء (متّى ٢٥: ٣٢ و٣٣) والأبرار عن الأشرار.

مِنْ بَيْتِ ٱللّٰهِ أي الكنيسة بيت الله الروحي (ص ٢: ٥). وقول بولس في بداءة هذا القضاء «لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا، وَلٰكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا نُؤَدَّبُ مِنَ ٱلرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ ٱلْعَالَمِ» (١كورنثوس ١١: ٣١ و٣٢). ولعل بطرس ذكر لما كتب هذا قول الله لملائكة النقمة «اَلشَّيْخَ وَٱلشَّابَّ وَٱلْعَذْرَاءَ وَٱلطِّفْلَ وَٱلنِّسَاءَ. ٱقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ. وَلاَ تَقْرَبُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ ٱلسِّمَةُ، وَٱبْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي» (حزقيال ٩: ٦). ذهب بعضهم أن بطرس أراد «ببيت الله» هيكل أورشليم أو الأمة اليهودية وأشار إلى خراب أورشليم الذي كان على وشك الحدوث. والمرجّح أنه أشار بذلك إلى مؤمني الكنيسة المسيحية الذين كانوا حينئذ شعب الله الحقيقي.

فَإِنْ كَانَ أَوَّلاً مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ الخ فإن كان الله قد سمح بأن يُصاب الطائعون بهذه الضيقات فكم بالأولى تكون مصائب العصاة شديدة لأنه إن كان قد سمح بوقوعها على الذين يحبهم لكي يمتحنهم فكم تكون مصائب أعدائه شديدة وهي عقاب لهم. وإن كان قد أدّب شعبه الضال لكي يأتي به إلى الطاعة ويقوده إلى وطنه السماوي فكم بالأولى يعاقب الأشرار المقاومين له (مزمور ٧٣: ١٢ - ١٨). وأراد «بالنهاية» القضاء المذكور في أول هذه الآية وهو الذي ابتدأ قبل اليوم في بيت الله لامتحانه وتنقيته ولم يُجرَ على العالم بعد. والمراد بالذين «لا يطيعون إنجيل الله» غير المؤمنين من اليهود والأمم. وفي هذا القول إنذار للمؤمنين أيضاً لئلا يجرّبوا فيرجعوا إلى الديانة اليهودية أو يقعوا في خطايا الوثنية.

    ١٨ «وَإِنْ كَانَ ٱلْبَارُّ بِٱلْجَهْدِ يَخْلُصُ، فَٱلْفَاجِرُ وَٱلْخَاطِئُ أَيْنَ يَظْهَرَانِ؟».

    أمثال ١١: ٣١ ولوقا ٢٣: ٢١ و١تيموثاوس ١: ٩

إِنْ كَانَ ٱلْبَارُّ الخ هذا مقتبس من (أمثال ١١: ٣١) على ما في الترجمة السبعينية والمراد «بالبار» هنا هو الذي يجتهد أن يسير في طريق الله بخلاف الأشرار وإنما هو بار بالنسبة إلى الأشرار لا إلى المتبرّرين أخيراً أمام الله.

بِٱلْجَهْدِ يَخْلُصُ قال هذا بالنظر إلى شدة الامتحان الذي يُمتحن المؤمن به وإلى ضعفه. وحين ينظر الله يوم الدين في كل أعمال المسيحي في حياته على الأرض ويرى كم مرة نكث عهوده وكم مرة عصاه وكم كانت قلة إيمانه ومحبته وكثرة شكوكه وتذمراته على قضائه وكثرة مخالفته لضميره وقلة غيرته لمجد الله وخلاص نفوس الناس يحق أن يُقال «بالجهد خلص» لأنه كان قريباً جداً إلى الهلاك مراراً كثيرة.

فلو أمكن أفضل المسيحيين وهو يفارق هذا العالم أن يراجع كل حوادث حياته ويقابل نعمة الله عليه بعدم أمانته لله نعجب من أنه كيف أمكنه أن يدخل السماء ولم يعجب من أن بولس قال «بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضاً» (١كورنثوس ٩: ٢٧). ويشبه هذا القول قوله «إِنِ ٱحْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلٰكِنْ كَمَا بِنَارٍ» (١كورنثوس ٣: ١٥). ولعل بطرس ذكر حين كتب هذه الآية قول المسيح له «سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ» (لوقا ٢٢: ٣١ و٣٢). وإذا نظرنا إلى الصعوبات التي في طريق خلاص المؤمن وشدة التجارب التي هو عرضة لها لم نعجب من قول المسيح «ٱجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ» (لوقا ١٣: ٢٤). ويقوي رجاء المسيحي لخلاصه قول المسيح «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (لوقا ١٨: ٢٧). قال بطرس هذه الآية وهو ناظر إلى الموانع التي في طريق الخلاص ولكنه قال بعد ذلك وهو ناظر إلى عظمة وسائل نعمة للخلاص «يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلأَبَدِيِّ» (٢بطرس ١: ١١).

فَٱلْفَاجِرُ وَٱلْخَاطِئُ أَيْنَ يَظْهَرَانِ أي أيّ رجاء لخلاصهما. والمعنى أنهما يهلكان لا محالة لكثرة خطاياهما وحبهما للخطيئة ولقساوة قلوبهما وقوة الشيطان عليهما ولأنهما لم يستعملا الوسائل التي منحها إياها الله لنيل الخلاص.

    ١٩ «فَإِذاً، ٱلَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا لِخَالِقٍ أَمِينٍ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ».

    ص ٣: ١٧

فَإِذاً أي لأن بداءة القضاء من المؤمنين زهيدة جداً بالنسبة إلى نهاية الأشرار المخيفة ولأن الله يمتحنهم بهذه المصائب وينقيهم لكي لا يدانوا مع العالم.

ٱلَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ على المؤمنين أن يعتبروا اضطهاداتهم حتى الموت نفعاً لهم بمقتضى قضاء الله (ص ٣: ١٧ و٤: ١٥ و١٦).

فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ لحماية أجسادهم إذا استحسن الله أن يحيوا ولخلاصهم الأبدي في كل الأحوال. ولعله خطر هنا على بال بطرس قول المسيح على الصليب «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لوقا ٢٣: ٤٦). فأمرهم بطرس أن يحسبوا نفوسهم وديعة أو كنزاً يضعونه في الله بكل ثقة واطمئنان. فمعنى الاستيداع هنا كمعناه في (لوقا ١٢: ٤٨ وأعمال ١٤: ٢٣ و٢٠: ٣٢ و١تيموثاوس ١: ١٨ و٢تيموثاوس ١: ١٢ و١٤ و٢: ٢).

كَمَا لِخَالِقٍ أَمِينٍ كون الله خالق النفس يؤكد عنايته بها ويؤيد ذلك قول المسيح «شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ» (لوقا ٢١: ١٨). وكونه أميناً في كل مواعيده وعهوده لشعبه يؤكد حفظه للوديعة.

فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ في هذه تحذير من الكسل والغفلة عن القيام بالواجبات والطمع في الخلاص لمجرد الاسم المسيحي فإن المسيح قال «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٧: ٢١).

الأصحاح الخامس

مضمون هذا الأصحاح

طلب الرسول من قسوس الكنائس أن يكونوا أمناء في القيام بما يجب عليهم لرعاياهم (ع ١ - ٤). وطلبه من أعضاء الكنيسة الذين هم أصغر من القسوس أن يكرموا الشيوخ ويطيعوهم حسناً وأن يتضعوا ويلقوا كل همومهم على الله (ع ٥ - ٧). وطلبه من الجميع أن يصحوا ويسهروا نظراً إلى ما يحيط بهم من الأخطار وحيَل عدوهم الشيطان وقوته وأن يحتملوا بالصبر ضيقاتهم التي هي كضيقات إخوتهم في العالم (ع ٨ - ١١) خاتمة الرسالة (ع ١٢ - ١٤).

حث الرسول على الأمانة في الخدمة ع ١ إلى ٤

    ١ « أَطْلُبُ إِلَى ٱلشُّيُوخِ ٱلَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَنَا ٱلشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَٱلشَّاهِدَ لآلاَمِ ٱلْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ ٱلْمَجْدِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ».

    أعمال ١١: ٣٠ و٢يوحنا ١ و٣يوحنا ١ ولوقا ٢٤: ٤٨ وعبرانيين ١٢: ١ وص ١: ٥ و٧ و٤: ١٣ ورؤيا ١: ٩

أَطْلُبُ لم يأمرهم بطرس مع أن له حق ذلك لكونه رسولاً بل خاطبهم بلطف وحلم.

إِلَى ٱلشُّيُوخِ أي القسوس أو الأساقفة. وهم يمتازون غالباً في الكنيسة بالسن والمقام (انظر تفسير أعمال ١١: ٣٠ و١٤: ٢٣ و١٥: ٢).

أَنَا ٱلشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ لم يبن طلبه على كونه رسولاً ولم يدّع أنه نائب المسيح على الأرض أو رأس الكنيسة كما ادّعى بعض التقليديين على كونه شيخاً مثلهم.

وَٱلشَّاهِدَ لآلاَمِ ٱلْمَسِيحِ كان شاهد عين في القبض على المسيح ومحاكمته والحكم عليه كما يظهر من البشائر ويتحقق من كلامه هنا. وذكر ذلك رغبة في أن يزيد تأثير كلامه في قلوبهم وأن يحملهم على أن يمثلوا آلام المسيح كأنها أمامهم بناء على شهادته العيانية وبذلك يزيد حبهم وشكرهم وأمانتهم له فلا يستغربون أن يتألموا كما تألم «رَسُولَ ٱعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ» (عبرانيين ٣: ١).

وَشَرِيكَ ٱلْمَجْدِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ اعتبر بطرس الشركة في آلام المسيح مقترنة بالشركة في مجده. ووصف بولس هذا المجد بقوله «إِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِٱلْمَجْدِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا» (رومية ٨: ١٨). وقوله «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤). ووصفه يوحنا بقوله «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ» (١يوحنا ٣: ٢). واعتبرهم رفقاءه في الإيمان والخدمة والآلام وورثة معه في المجد العتيد أن يُعلن بمجيء المسيح ثانية.

    ٢ «ٱرْعَوْا رَعِيَّةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّاراً، لاَ عَنِ ٱضْطِرَارٍ بَلْ بِٱلاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ».

    يوحنا ٢١: ١٦ وأعمال ٢٠: ٢٨ وفليمون ١٤ و١تيموثاوس ٣: ٨

ٱرْعَوْا رَعِيَّةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ عبّر بقوله «ارعوا» عن كل ما يجب على الراعي لرعيته من حماية وسياسة وإرشاد. والمرجّح أنه ذكر حينئذ قول المسيح ثلاث مرات له «ارع الخ» وهو على شاطئ بحر طبرية (يوحنا ٢١: ١٥ - ١٧). وهذا مثل قول بولس لشيوخ أفسس «اِحْتَرِزُوا إِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ ٱلرَّعِيَّةِ ٱلَّتِي أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ» (أعمال ٢٠: ٢٨). وعبّر بقوله «رعية الله» الخ عن كل كنائس أسيا إذ اعتبرها رعية واحدة وأنها ليست رعية الأساقفة حقيقة بل رعية خالقها. والمسيح لم يقل لبطرس ارع غنمك أو الغنم بل «ارع غنمي» «ارع خرافي».

نُظَّاراً أي يجب أن ترعوا بالنظر إلى كونكم أساقفة كما يجب أن ترعوا باعتبار كونكم قسوساً. ولقبوا بالاثنين في (أعمال ٢٠: ١٧ و٢٨). وهم يرعون بتعليمهم أقوال الله لفظاً وعملاً (إرميا ٢٣: ١ - ٤ وحزقيال ٣٤: ٢). وهم «نظار» لهم ببذل عنايتهم في وقايتهم إياهم من أن يدخل المضلين حظيرتهم فإن أولئك المضلين «ذئاب خاطفة» (أعمال ٢٠: ٢٩ ويوحنا ١٠: ١٢) وبإتيانهم إيّاهم بكل ما يحتاجون إليه.

لاَ عَنِ ٱضْطِرَارٍ بَلْ بِٱلاخْتِيَارِ أي يجب أن لا يحسبوا خدمة الرعية حملاً ثقيلاً يميلون إلى الاستعفاء منه لثقلها أو لكونهم عرضة للاضطهاد من أجلها خصوصاً بل يجب أن يرغبوا فيها حباً لرئيس الرعاة وللرعيّة وأن يذكروا إن الله عيّنهم لهذه الخدمة.

لاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ أي كسب دنيوي. فلا يجوز لأحد أن يخدم الكنيسة بغية ذلك (انظر ١تيموثاوس ٣: ٣ وتيطس ١: ٧). نعم للمبشر أن يأخذ نفقته من الكنيسة التي يخدمها فإن «الفاعل مستحق أجرته» (لوقا ١٠: ٧ و١كورنثوس ٩: ١٤). لكن الذي يخدم الإنجيل طمعاً بالأجرة فأجرته ليست سوى «ربح قبيح».

بَلْ بِنَشَاطٍ ناشئ عن المحبة للمسيح ولنفوس الناس وعن تيقن أن الإنجيل الذي يبشر به قوة الله للخلاص (رومية ١: ١٦ و١كورنثوس ٩: ١٦).

    ٣ «وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى ٱلأَنْصِبَةِ بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ».

    حزقيال ٣٤: ٤ ومتّى ٢٠: ٢٥ فيلبي ٣: ١٧ و١تسالونيكي ١: ٧ و٢تسالونيكي ٣: ٩ و١تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٢: ٧ ويوحنا ١٣: ١٥

لاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى ٱلأَنْصِبَةِ الكنيسة كلها للرب بدليل قوله «إن قسم الرب شعبه» (تثنية ٣٢: ٢) والمراد «بالأنصبة» هنا أقسام الكنيسة التي وكلها الله إلى عناية القسوس. وبقوله «لا كمن يسود» منعهم من أن يدّعوا السلطة التي لذوي المناصب السياسيين وأن يمارسوها. فعليهم أن يرشدوا الناس إلى حق الإنجيل بالحجج القاطعة وبالسلوك في سننه.

بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ ما قاله قبلاً بطريق السلب قاله هنا بطريق الإيجاب. وهذا كقول بولس لتيموثاوس «كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ٱلْكَلاَمِ، فِي ٱلتَّصَرُّفِ، فِي ٱلْمَحَبَّةِ، فِي ٱلرُّوحِ، فِي ٱلإِيمَانِ، فِي ٱلطَّهَارَةِ» (١تيموثاوس ٤: ١٢) فانظر تفسيره. فنهى بطرس في هذه الكلام عن ثلاثة ذنوب ضرّت الكنيسة على توالي الأيام أكثر من غيرها وهي الإقدام على الخدمة الدينية دون دعوة الله. والرغبة في الربح القبيح منها. والتسلط على الكنيسة وهو لا يحق إلا لله.

    ٤ «وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ ٱلرُّعَاةِ تَنَالُونَ إِكْلِيلَ ٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي لاَ يَبْلَى».

    ص ٢: ٢٥ و١كورنثوس ٩: ٢٥ وص ١: ٤

وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ ٱلرُّعَاةِ أي المسيح وسمي «الراعي» (ص ٢: ٢٥) و «الراعي العظيم» (عبرانيين ١٣: ٢٠) و «الراعي الصالح» (يوحنا ١٠: ١١) وسمي هنا «رئيس الرعاة» بالنسبة إلى من وكل إليهم الاعتناء برعيته على الأرض. ومعنى «ظهوره» هنا إتيانه ثانية ليملك ويثيب عبيده كما في (ص ١: ٢٠ وكولوسي ٣: ٤ و١يوحنا ٢: ٢٨ و٣: ٢).

تَنَالُونَ إِكْلِيلَ ٱلْمَجْدِ جزاء على ما وقع عليهم من تعيير الناس وإهانتهم لهم لاحتمالهم ذلك بالصبر والتواضع وهو ما سماه إشعياء «إكليل الجمال» (إشعياء ٦٢: ٣) وبولس «إكليل البر» (٢تيموثاوس ٤: ٨) ويعقوب ويوحنا «إكليل الحياة» (يعقوب ١: ١٢ ورؤيا ٢: ١٠) المشبه بالذي كُلل به المنتصرون في الألعاب اليونانية. ومعنى نيلهم «إكليل المجد» الحصول على الإكرام والسرور الذي يثيب المسيح بهما عبيده الأمناء.

ٱلَّذِي لاَ يَبْلَى أي لا يزول جماله ومجده بتوالي السنين كما يزول كل الجمال المادي الأرضي (انظر ١كورنثوس ٩: ٢٥).

نصائح للرعية ع ٥ إلى ٧

    ٥ «كَذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلأَحْدَاثُ ٱخْضَعُوا لِلشُّيُوخِ، وَكُونُوا جَمِيعاً خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا بِٱلتَّوَاضُعِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ يُقَاوِمُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً».

    لوقا ٢٢: ٢٦ و١تيموثاوس ٥: ١ وأفسس ٥: ٢١ وص ٣: ٨ وأمثال ٣: ٣٤ ويعقوب ٤: ٦

أَيُّهَا ٱلأَحْدَاثُ هم أعضاء الكنيسة الذين هم أحدث من الشيوخ عملاً ومقاماً.

ٱخْضَعُوا لِلشُّيُوخِ بما يجب لهم من الإكرام والطاعة نظراً لسنهم وعملهم.

خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بمقتضى نسبة كل إلى الآخر فالشيخ يخضع للشيخ والأخ لأخيه في الكنيسة. ولا يرغب أحد في أن يسود على الآخر (انظر تفسير أفسس ٥: ٢١ وفيلبي ٢: ٣).

وَتَسَرْبَلُوا بِٱلتَّوَاضُعِ فإن المسيح اتّزر بمنشفة وغسل أرجل تلاميذه (يوحنا ١٣: ٤ و٥). فعليهم أن يرتضوا أن يخدموا المسيح والكنيسة في أصغر الأمور حتى العبيد بدلاً من أن يكونوا رؤساء الكنيسة. فيجب أن يكون التواضع مما يمتازون به عن غيرهم.

لأَنَّ ٱللّٰهَ يُقَاوِمُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ (أمثال ٣: ٣٤) على ما في الترجمة السبعينية واقتبس ذلك يعقوب فارجع إلى تفسيره.

وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً المراد «بالنعمة» هنا كل الفضائل المسيحية فحسب القلب المتواضع الآناء الذي يسرّ الله أن يضع فيه تلك الفضائل.

    ٦ «فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ ٱللّٰهِ ٱلْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ».

    يعقوب ٤: ١٠

فَتَوَاضَعُوا كُرِّر للتمكين. قال الحكيم «قَبْلَ ٱلْكَرَامَةِ ٱلتَّوَاضُعُ» (أمثال ١٥: ٣٣ و١٨: ١٢). وقال «ثَوَابُ ٱلتَّوَاضُعِ وَمَخَافَةِ ٱلرَّبِّ هُوَ غِنىً وَكَرَامَةٌ وَحَيَاةٌ» (أمثال ٢٢: ٤). وقال ميخا «مَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ ٱلرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ ٱلْحَقَّ وَتُحِبَّ ٱلرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلٰهِكَ» (ميخا ٦: ٨ انظر أيضاً لوقا ١٤: ٧ - ١١ وفيلبي ٢: ٨).

تَحْتَ يَدِ ٱللّٰهِ ٱلْقَوِيَّةِ إذا وضعها على الإنسان للتأديب أو للامتحان فعلى الإنسان أن يخضع لها بكل تواضع وثقة وبدون تذمر. ولعل المعنى أن يد الله ممدودة لحمايتهم لكي يلجأوا إليه في ضيقاتهم.

لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ أي في الزمان الذي قضى الله به متى أكمل ما قصده من التأديب أو الامتحان. وهذا مثل قول المسيح «كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لوقا ١٨: ١٤ انظر أيضاً لوقا ١٤: ١١). فالذين يزرعون بالدموع كثيراً ما يحصدون بالابتهاج في العالم ولكن كل المضطهدين لأجل البر يرفعهم الله في يوم الدين وحينئذ يثيبهم على كل ما احتملوه من الاضطهاد والفقر والإهانة.

    ٧ «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ».

    متّى ٦: ٢٥

مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ هذا مبني على قول المرنم «أَلْقِ عَلَى ٱلرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ» (مزمور ٥٥: ٢٢). وهذا مثل قول المسيح في (متّى ٦: ٢٩ و٣٠). ومهما يصب المؤمن من الأرزاء كفقدان الأصحاب والعافية والمال والصيت فعليه أن يلجأ إلى الله بالصلاة ويلقي حمله عليه متيقناً أنه يعطيه نعمة وقوة لاحتمال كل ما استحسن وأن «نيره هين وحمله خفيف» (متّى ١١: ٣٠ انظر تفسير فيلبي ٤: ٦ و٧).

لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ كقول المسيح «أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى ٱلأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ» (متّى ١٠: ٢٩ و٣٠ انظر لوقا ٢١: ١٨). وكقول داود «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور ٢٧: ١٠). وقوله «أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ. ٱلرَّبُّ يَهْتَمُّ بِي. عَوْنِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ» (مزمور ٤٠: ١٧). وقول إشعياء «هَلْ تَنْسَى ٱلْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ٱبْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هٰؤُلاَءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ» (إشعياء ٤٩: ١٥). والبلايا ليست ثقيلة إلا على من يشك في مراحم الرب حين يُجرب ولا يرى من نفع لنفسه من مصائبه. فأعظم تعزية في الأرزاء الاعتقاد أنها من الله وأنه تعالى أب محب شفوق «لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي ٱلإِنْسَانِ» (مراثي إرميا ٣: ٣٣). وأن يزيل المصاب في الوقت الملائم أو يمنح نعمة لاحتماله كما كان من أمر بولس (٢كورنثوس ١٢: ٧ - ٩).

نصائح للمصابين ولا سيما الذين جربهم الشيطان ع ٨ إلى ١١

    ٨ «اُصْحُوا وَٱسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ».

    ص ١: ١٣ ومتّى ٢٤: ٤٢ ويعقوب ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٧

اُصْحُوا هذا تنبيه الراعي الذي يرى الذئب آتياً ليخطف الخراف والحرّاس نائمون. والمعنى كما في (ص ١: ١٣ و٤: ٧). والغاية من ذلك الاحتراس من الشيطان.

ٱسْهَرُوا (انظر تفسير ١تسالونيكي ٥: ٦). «فالصحو والسهر» ضروريان للنجاة من الخطر ولا سيما إذا كان العدو محتالاً قوياً (لوقا ٢٢: ٤٦ وأفسس ٦: ١١).

إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ عدو الله والناس (متّى ١٣: ٣٩ ويوحنا ٨: ٤٤ ورؤيا ١٢: ١٠) فإنه يخاصم الخاطئ حين يعزم على الرجوع إلى الله ويطلب خلاص نفسه ويجتهد أن يطيع الله.

كَأَسَدٍ زَائِرٍ يزأر الأسد حين يجوع ويهتم بالافتراس (مزمور ٢٢: ١٣ وحزقيال ٢٢: ٢٥ وصفنيا ٣: ٣ وزكريا ١١: ٣). شبّه الشيطان «بأسد زائر» لأنه هيّج على المسيحيين اضطهادات دموية وهو يظهر أحياناً بصورة الحية ليخدع (تكوين ٣: ١ و٤) وأحياناً كملاك نور (٢كورنثوس ١١: ١٤) ولكنه لا يأتي إلا ليهلك.

يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ كأن الأرض كلها ميدان له ونفوس الغافلين فرائسه وغيظه وقوته على الإضرار وانتباهه توجب على المؤمنين أن يصحوا ويسهروا. حذّر المسيح بطرس من خطر الشيطان (لوقا ٢٤: ٣١) كما حذّر بطرس مؤمني أسيا.

    ٩ «فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي ٱلإِيمَانِ، عَالِمِينَ أَنَّ نَفْسَ هٰذِهِ ٱلآلاَمِ تُجْرَى عَلَى إِخْوَتِكُمُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْعَالَمِ».

    يعقوب ٤: ٧ وكولوسي ٢: ٥ وأعمال ١٤: ٢٢ وعبرانيين ١٢: ٨

فَقَاوِمُوهُ يجب على المؤمنين أن لا يسلّموا للشيطان البتة وأن لا يتركوا مراكز خدمتهم خوفاً من الخطر بل عليهم أن يقاوموه ولا يخشوا من تهديداته.

رَاسِخِينَ فِي ٱلإِيمَانِ أي متكلين على الله لا على قوتهم ويتقووا بالقوة التي تنشأ من الإيمان للنفس. قال يعقوب الرسول لمؤمني الشتات «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يعقوب ٤: ٧). وقال بولس لمؤمني أفسس «حَامِلِينَ فَوْقَ ٱلْكُلِّ تُرْسَ ٱلإِيمَانِ، ٱلَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ ٱلشِّرِّيرِ ٱلْمُلْتَهِبَةِ» (أفسس ٦: ١٦).

عَالِمِينَ أَنَّ نَفْسَ هٰذِهِ ٱلآلاَمِ الخ أي يجب أن لا يتصوروا أن الله يتركهم لاحتمال تلك الضيقات ولذلك حقق لهم أن كل المسيحيين في العالم دُعوا لاحتمال الأرزاء. وفي مثل هذا المعنى قال بولس لمؤمني كورنثوس «لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ أَمِينٌ، ٱلَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ الخ» (١كورنثوس ١٠: ١٣). فإذن ليست مصائبهم دليلاً على أن الله قد غضب عليهم وأنه قصد القصاص لهم وأن عليهم أن يتيقنوا أنه كما قدر أولئك بنعمة الله أن يحتملوا ضيقاتهم يمكنهم هم أن يحتملوها بذلك وأنه ليست إخوتهم وحدهم ضويقوا على الأرض بل إن أخاهم الأكبر الرب يسوع احتمل أشد الضيقات.

    ١٠ «وَإِلٰهُ كُلِّ نِعْمَةٍ ٱلَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ ٱلأَبَدِيِّ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيراً، هُوَ يُكَمِّلُكُمْ، وَيُثَبِّتُكُمْ، وَيُقَوِّيكُمْ، وَيُمَكِّنُكُمْ».

    ص ٤: ١٠ و١كورنثوس ١: ٩ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٠ وص ١: ٦ وعبرانيين ١٣: ٢١ ورومية ١٦: ٢٥ و٢تسالونيكي ٢: ١٧ و٣: ٣

في هذه الآية تشجيع وتعزية للذين يحتملون اضطهاد الأشرار ويقاومون الشيطان.

وَإِلٰهُ كُلِّ نِعْمَةٍ أي مصدر كل نعمة يمنحها كما تقتضي احتياجات عبيده (١تسالونيكي ٣: ١١ و٥: ٢٣).

ٱلَّذِي دَعَانَا أي دعاكم ودعاني فدعاكم بتبشير بولس ورفقائه (ص ١: ١٢ و٢٥). وقد سبق تفسير الدعوة في (أفسس ٤: ١).

إِلَى مَجْدِهِ ٱلأَبَدِيِّ الذي يعطي النعمة في هذا العالم يعطي المجد في العالم الآتي والنعمة استعداد للمجد. فدعوته إياهم إلى المجد يؤكد أنه لا يتركهم حتى ينالوه.

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أعطاهم الله ابنه الحبيب لكي يأتي بهم إلى المجد ويكون ذلك باتحادهم به بالإيمان. فبذل الله ابنه عربون كل ما سواه من البركات بدليل قول بولس الرسول «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ» (رومية ٨: ٣٢).

بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيراً وصف بطرس ذلك «التألم» بأنه يسير (ص ١: ٦) لكونه قصير المدة بالنسبة إلى الأبد وطفيف بالنسبة إلى «ثقل المجد العتيد أن يُستعلن» (٢كورنثوس ٤: ١٦ - ١٨). فلا يمكنهم أن ينالوا المجد الأبدي ما لم يتألموا يسيراً.

يُكَمِّلُكُمْ بواسطة تلك الشدائد والنعمة المعطاة لكم لاحتمالها. والمقصود «بالتكميل» هنا أن يكونوا مستعدين لكل ما قصد الله منهم غير ناقصين شيئاً من الفضائل (١كورنثوس ١: ١٠ و١تسالونيكي ٣: ١٠).

وَيُثَبِّتُكُمْ لكي لا يتزعزع إيمانكم.

وَيُقَوِّيكُمْ لكي لا يغلبكم العدو بل تغلبوا كل مقاوم.

وَيُمَكِّنُكُمْ كالبيت المؤسس على الصخر (متّى ٧: ٢٤ - ٢٧).

    ١١ «لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ».

    رومية ١١: ٣٦ وص ٤: ١١

(انظر تفسير ص ٤: ١١). ختم الرسول تعليمه بالتسبيح.

خاتمة الرسالة ع ١٢ إلى ١٤

    ١٢ «بِيَدِ سِلْوَانُسَ ٱلأَخِ ٱلأَمِينِ، كَمَا أَظُنُّ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ وَاعِظاً وَشَاهِداً، أَنَّ هٰذِهِ هِيَ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلْحَقِيقِيَّةُ ٱلَّتِي فِيهَا تَقُومُونَ».

    ٢كورنثوس ١: ١٩ وعبرانيين ١٣: ٢٢ وص ١: ١٣ و٤: ١٠ وأعمال ١١: ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ١

بِيَدِ سِلْوَانُسَ الأرجح أنه هو سيلا المذكور في سفر الأعمال فإنهم اعتادوا أن يختصروا ألفاظ الأعلام كزينوس من زينادورس وأبلوس من أبولونيوس وهرماس من هرمودوروس. وهو من رؤساء كنيسة أورشليم (أعمال ١٥: ٢٢). وهو من متنصري اليهود وله حقوق الروماني كبولس الرسول (أعمال ١٦: ٣٧). عيّنه مجمع أورشليم أن يحمل الرسائل مع بولس وبرنابا إلى أنطاكية (أعمال ١٥: ٢٢ و٣٢). وكان بعد ذلك رفيق بولس في سفره الثاني للتبشير (أعمال ١٥: ٤٠ - ١٧: ١٤). تركه بولس في بيرية مع تيموثاوس (أعمال ١٧: ١٤) وأتى إلى بولس وهو في كورنثوس (أعمال ١٨: ٥ و٢كورنثوس ١: ١٩). والأرجح أنه رجع إلى أورشليم مع بولس ولم نسمع بعد أنه رافقه. وكان له يد مع ذلك الرسول في تأسيس كنائس أسيا التي كتب بطرس إليها فلاق أن يكتب الرسالة بيده. ولا نعلم كيف كان شريك بطرس في عمله في بابل ومرافقته إياه إليها.

ٱلأَخِ ٱلأَمِينِ، كَمَا أَظُنُّ «أظن» هنا لليقين لا للشك على ما يُستفاد من الأصل اليوناني. أراد بطرس أن يثبت بشهادة نفسه أمانة بولس ورفقائه في تبشيره إياهم بالإنجيل. وشهادته بأمانة سلوانس منبية على أن سلوانس كان عضواً في مجمع الكنيسة الأورشليمية وأنه عُيّن لحمل رسالة ذلك المجمع إلى الكنائس.

كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ هذه الرسالة التي كانت بين يديه. وجاء مثل هذا في رسائل بولس (غلاطية ٦: ١١ وفليمون ١٩ و٢١).

بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ أي بالاختصار لكثرة المواضيع التي ذكرها في الرسالة على أنه كان له أن يكتب كثيراً.

وَاعِظاً أي معلماً كدأبه في هذه الرسالة.

وَشَاهِداً بالحق على ما هو في الإنجيل. ودُعي الرسل ليكونوا شهوداً (أعمال ١: ٨). والشهادة الخاصة التي أراد بطرس تأديتها هي أن تعليم الإنجيل الذي بلغهم بفم بولس ورفقائه كان إعلان نعمة الله الحقة لا تعليم بشر أو خداعاً فوجب أن يتعزوا بهذه الشهادة في ضيقاتهم وأن يثبتوا في ما تعلموه.

ٱلَّتِي فِيهَا تَقُومُونَ ويجب أن تظلوا قائمين فيها غير متزعزعين من تملقات أعداء الحق أو تهديداتهم.

    ١٣ «تُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ ٱلَّتِي فِي بَابِلَ، ٱلْمُخْتَارَةُ مَعَكُمْ، وَمَرْقُسُ ٱبْنِي».

    أعمال ١٢: ١٢

تُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ ٱلَّتِي فِي بَابِلَ، ٱلْمُخْتَارَةُ مَعَكُمْ قال أكثر المفسرين أنها الكنيسة المسيحية في بابل وأنها أهدت هنا التحيات إلى أخواتها كنائس أسيا الصغرى ويُظن أنه اسم مجازي لرومية (انظر في هذا الشأن مقدمة هذه الرسالة).

مَرْقُسُ ٱبْنِي الأرجح أنه يوحنا مرقس ابن أخت برنابا (انظر تفسير أعمال ١٢: ١٢ و١٥: ٣٧). ودعاه «ابنه» محبة له ولكونه أصغر منه سناً أو لكون بطرس كان علة اهتدائه إلى المسيح.

    ١٤ «سَلِّمُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِقُبْلَةِ ٱلْمَحَبَّةِ. سَلاَمٌ لَكُمْ جَمِيعِكُمُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. آمِينَ».

    رومية ١٦: ١٦ أفسس ٦: ٢٣

بِقُبْلَةِ ٱلْمَحَبَّةِ حسب عادة الكنائس في العصر الرسولي (انظر تفسير رومية ١٦: ١٦).

سَلاَمٌ لَكُمْ هذه التحية تشبه بركة بولس في (أفسس ٦: ٢٤ وفيلبي ٤: ٧) فارجع إلى التفسير «والسلام» المقصود هنا هو السلام مع الله وفي قلوبهم وبين كل من أعضاء الكنيسة وغيره.

ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي المتحدين به بالإيمان اتحاداً حقاً.